ثمة فكرة ما فتئت تتكرر بكثرة في أوساط المراقبين والمعلقين الدوليين تقول إن 08/08/08 (الثامن من أغسطس 2008) يوم تاريخي، لأنه عرف ظهور نظام عالمي جديد. فقد شهد هذا اليوم وقوع حدثين لا رابط بينهما على ما يبدو ميزا الأخبار الدولية، وجاء تزامن حدوثهما ليقوي ويكرس فكرة القطيعة التاريخية بين مرحلة ما قبل الثامن من أغسطس ومرحلة ما بعد الثامن أغسطس. شهد هذا اليوم افتتاح أولمبياد بكين 2008، الذي اعتبر رمزاً لتقدم الصين وتبوئها مكانة الصدارة على الساحة الدولية، وكذلك انفتاحها الطوعي على العالم تأكيداً لإنجازاتها ونجاحاتها في المجالات الرياضية والاقتصادية والتكنولوجية. وشهد أيضاً بداية حرب صغيرة اندلعت بين جورجيا وروسيا، وحققت فيها هذه الأخيرة نصراً عسكرياً واستراتيجياً، كما شكلت مناسبة لها أيضاً ذكرت فيها البلدان الغربية بقوة بأنه لا ينبغي الوقوع في خطأ التقليل من شأنها. ولكن، هل هي مجرد مصادفة تاريخية أن تقوم قوتان يمكن أن تنافسا الولايات المتحدة مستقبلاً بالتأكيد على مكانتهما وقوتهما في اليوم نفسه، وتستعرضا عضلاتهما، كل واحدة بطريقتها وقوتها، وتظهرا للعالم أنهما مصممتان على أن تصبحا أكثر أهمية في إدارة الشؤون الدولية من ذي قبل، وأنهما ليستا مستعدتين لتوضعا في مرتبة متأخرة؟ وهل يمكن القول إن 08/08/08 شهد نهاية العالم أحادي القطبية الذي ظهر بعد انهيار الاتحاد السوفييتي؟ وهل ولى النظام العالمي الذي كانت فيه الولايات المتحدة وحدها تستطيع تقرير مسيرة العالم من دون الالتفات إلى رأي الدول الأخرى؟ كلا، هذا الاستنتاج متسرع جداً، وتقريبي جداً، وينطوي على خطأ في الفهم أكثر منه على واقع استراتيجي. من الواضح أنه يصعب وصف العالم الحالي بأنه أحادي القطبية. فمما لا شك فيه أن الولايات المتحدة تظل القوة الأولى في العالم، ليس من الناحية الاستراتيجية فحسب، وإنما أيضاً من الناحية التكنولوجية والاقتصادية والثقافية، حيث تسجل الولايات المتحدة تقدماً كبيراً بخصوص كل هذه المجالات مقارنة مع روسيا والصين. إلا أنه لم يعد بإمكانها في المقابل الحديث عن تفوق مطلق، ذلك أن الأميركيين عالقون اليوم في أفغانستان والعراق، واقتصاد الولايات المتحدة يواجه مشاكل بالجملة، وشعبيتها في العالم باتت في الحضيض، كما أن عدد الملفات الدولية التي يبدو أن تأثيرها عليها بات محدوداً، يزداد يوماً بعد يوم على ما يبدو. وبالتالي، فيمكن القول إن الولايات المتحدة هي القوة العالمية الأولى، ولكنها ليست المهيمنة. وإذا كانت أميركا قد اعتقدت للحظة من اللحظات أنها تعيش في عالم أحادي القطبية - الشيء الذي دفعها إلى خوض حرب العراق ضد رغبة المجتمع الدولي - فقد بات من الواضح اليوم أن الأمر إنما يتعلق بوهم تقوم اليوم بدفع ثمنه، وذلك بكل بساطة؛ لأنه في عالم معولم، حيث القوة متنوعة ومتعددة الأشكال، لا يستطيع لاعب واحد، مهما بلغت قوته وعظم شأنه، تحديد قواعد اللعبة بمفرده. والجدير بالذكر هنا أن المرشحين للانتخابات الرئاسية الأميركية يعترفان بحاجة الولايات المتحدة إلى ممارسة تعددية أكبر، يريدها "الجمهوري" جون ماكين أن تكون مقتصرة على البلدان الديمقراطية، بينما يريدها "الديمقراطي" باراك أوباما أن تكون موسعة وكبيرة. سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن يوم 08/08/08 يمثل منعطفاً تاريخياً، وذلك على اعتبار أن لا روسيا ولا الصين انتقلتا في هذا اليوم من منزلة البلد الصغير إلى منزلة القوة العظمى. وكل ما هنالك هو أن الأمر يتعلق بالأحرى بحلقة جديدة ضمن تطور التوازنات الاستراتيجية المتحركة. ثم إن صعود الصين كقوة عالمية لا يعود إلى شهر أغسطس، وما حدث هو أن صعودها إنما برز واتضح أكثر خلال الألعاب الأولمبية التي، على براعة تنظيمها، ليست سوى مرحلة من بين مراحل أخرى كثيرة ضمن مسيرة الصين الطويلة نحو استرجاع القوة، مسيرة بدأتها بكين في 1978 وما زالت متواصلة إلى اليوم. وبالنسبة لروسيا، فلم تعد تربطها منذ سنوات أي علاقة مع ذاك البلد المدمر والعاجز عن فرض احترام مصالحه الوطنية تحت إدارة بوريس يلتسن. وبدلاً من ذلك، أصبح استرجاع سلطة الدولة، وتنمية الاقتصاد، والعودة بقوة إلى الساحة الدولية، هدف الدولة الروسية منذ أوائل عام 2000 ووصول فلاديمير بوتين إلى السلطة. إن تحول العالم إلى التعددية القطبية (الذي لا يعني أن كل الأقطاب متساوية من حيث القوة) هو في الواقع عملية قائمة ومتواصلة من الصعب تحديد تاريخ لها على وجه الدقة، مثلما كانت الحال مع سقوط جدار برلين في التاسع من نوفمبر ونهاية العالم ثنائي القطبية. وذلك لأن تحول العالم إلى التعددية القطبية، وعلى غرار أي عملية، يتألف من عدة حلقات تتزايد من دون أن يكون من الممكن تحديد اليوم الذي لم يعد فيه أي شيء مثلما كان في السابق، بدقة. وفي هذا الإطار، فإننا نشهد اليوم تراجعاً نسبياً لقوة الولايات المتحدة - التي تظل رغم ذلك القوة العالمية الأولى- مقابل صعود الصين وروسيا، إضافة إلى البرازيل والهند وعدد من اللاعبين الدوليين الآخرين. والواقع أنه بهدف التبسيط وشد انتباه الجمهور، يميل المراقب أو المعلق أحياناً، إلى تحويل المستجدات إلى تاريخ، والتطور إلى ثورة، وتأكيد عملية ما إلى قطيعة. وبهذا المعنى، فإن 08/08/08 ليس في الواقع سوى تأكيد توجه جذوره قديمة.