في مقالات ثلاث سابقة أكدت أهمية الدين في حياة الإنسان؛ لأن التدين فطرة وحاجة في الوقت نفسه، وتعرضت لما يريد الدين منّا وما يجعلنا في حاجة إلى التدين، والإسلام هو الدين الخالد الذي بدأ من آدم عليه السلام واستمرت الرسل حوله تترا، فجاء موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء يبني كل منهم على رسالة الآخر حتى جاء خاتم الأنبياء بتمام هذا الدين، قال تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". لكن هذا الدين فهمه البعض بصورة معوجة أخرجته عن روحه التي جاء بها، فشوهت صورة الرحمة المهداة للعالم كي يكون هذا الدين مشقة على أهله وغيرهم، ومن هنا سأذكِّر في هذا المقال ببعض الأفكار التي لا يريدها الإسلام منا ومن اعتقد أنها من الإسلام فهو على فهم خاطئ لا نريده في مجتمعاتنا. من الأمور التي جاء الإسلام كي يحاربها، فكرة رفض الآخر باسم الدين والتدين، بلغة أبسط التكفير، فقد جاء الإسلام في مجتمع تختلف تصورات الناس فيه حول التدين، قال ربنا سبحانه وتعالى: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات". هذه الآية تبين الفروق الفردية بين الناس في التدين، لكن اللافت في الآية أن الله تعالى اعتبرهم جميعاً من عباده المصطفين رغم تفاوتهم في الطاعات، ومع هذا يظهر علينا في المجتمع من يصنف الناس غير هذا التصنيف فيخرج من الإسلام من يشاء ويدخل منه من هو ليس أهلاً له... هذا تدين مرفوض؛ لأن نبي الأمة قال: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما". رفض الآخر تدين قديم في الإسلام حذّر منه الرسول عليه الصلاة والسلام عندما تكلم عن من عرفوا بعد ذلك بالخوارج والذين وصفهم بقوله: "يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم"، أي يتوهم أنهم في غاية التدين وهم ليسوا كذلك؛ لأن تكملة الحديث تقول: "يخرجون من الملة كما يخرج السهم من الرمية"؛ لأنهم أتوا بتدين يفرق الناس على غير هدى وأوجدوا في الأمة فتنة فرقت جمع المسلمين بعد وحدة. ومن الأحداث التي تُروى أن أحد العلماء مرّ بنفر من الخوارج يقتلون الناس بعد التحقق منهم، فقالوا له: أأنت مسلم؟ قال: لا، لأنه لو قال نعم لقُتل، قال لهم بل مشرك يستجير بكم، وهو مسلم كي يسلم على نفسه، فقالوا له: لقد أمرنا ربنا بإجارة المشرك "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله"، فأسمعوه كلام الله ثم طلبوا منه اللحاق بدينهم أو يقتلوه، فقال لهم لكن الله تعالى أمركم في الآية نفسها بغير ذلك "ثم أبلغه مأمنه"، أي بعد أن يسمع كلام الله هو حر في اتخاذ قراره حين يصل مأمنه، ففعلوا ذلك. ومن أروع ما جاء به الإسلام الوحدة التي حولت قبائل العرب المتحاربة إلى أمة تبني وتساهم في بناء الحضارات، قال تعالى "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألَّف بين قلوبكم". نعم لقد كانت العرب في عداوات وحروب استمرت سنوات، قتل فيها الأخ أخاه وتبرأ فيها الابن من أبيه، حتى جاء هذا الدين بالوحدة وحذر من الفرقة، فقال عليه الصلاة و السلام "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم عنق بعض"، فكأنه يقول إن ذلك من علامات الكفر وليس التدين أن يحارب المسلم أخاه المسلم، ومن هنا جاء الحديث الآخر: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار". فالاجتهاد مقبول إلا في الدماء التي لم يتساهل فيها الإسلام، ومع ذلك ظهر في هذه الأمة، وباسم التدين، من يستحلُّ دم المسلم بغير حق، فيفجر ويقتل باسم الشهادة وهو لا يعلم أنه ينتحر وحسابه عند ربه. الدين يأمر بالوحدة حول ولي الأمر الذي ارتضاه الناس ما أقام فينا الصلاة، ومن يفكر بغير هذا فقد أتى بفعل باسم الدين لا نريده. إن خطورة وجود ولاءات متعارضة في دولة واحدة لا تخفى على العقلاء، وإذا تمت هذه الولاءات لهيئات أو جماعات أو أفراد من خارج الوطن يحارب بعضها بعضاً، فماذا بقي للناس في أوطانهم، فهل من عقلاء يعيدون التدين إلى ما أراد الله تعالى، كي يعود الإسلام عامل وحدة وإلفة ومحبة.