النظام الديمقراطي: اختلالات الشرعية! -------- مع التقدم الديمقراطي الذي تشهده شعوب العالم المتقدم، وتحديداً في أوروبا والولايات المتحدة، ومع التطور الذي تشهده العملية الديمقراطية والتناقضات التي تطال معمارها الداخلي، تتناسل الأسئلة والتخمينات حول أزمة الديمقراطية، أو إخفاقها في التعبير عن إرادة الشعب بسبب تعقيدات الزمن الراهن وإكراهات المجتمعات الحديثة. فهل أزمة الديمقرطية الداخلية التي تثيرها العديد من الأقلام راجعة إلى التعثر الاقتصادي، أم العجز السياسي، أم أنها ناجمة عن الميول الفردية المتضخمة في المجتمعات الغربية التي تقوض العلاقات الاجتماعية؟ هذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها المفكر الفرنسي "بيير روزانفالو" في كتابه الذي نعرضه هنا وعنوانه "الشرعية الديمقراطية: الحياد والتأملية والقرب". فالكاتب يرى أن الحالة الديمقراطية في المجتمعات الغربية تطورت على نحو كبير في السنوات الأخيرة، لذلك يسعى عبر كتابه إلى رصد التململات الداخلية في البناء الديمقراطي والتحولات التي تطال هيكله. والحقيقة أن الكتاب ليس سوى تكملة لكتاب سابق حول الديمقراطية أصدره المؤلف عام 2006 ويمهد فيه لما سيتطرق له في كتابه الحالي، فأولاً ما يلاحظه المؤلف وجود نزوع مزودوج في الديمقراطيات الحديثة يتأرجح بين ما يسميه بالنزعة غير الديمقراطية التي يرفض فيها المواطن الاقتصار على دور الناخب الذي يقترع في الانتخابات العامة ويسعى إلى لعب دور المواطن المنخرط في عملية المراقبة والضغط على صانع القرار، ومن جهة أخرى هناك ما يعتبره الكاتب هشاشة المؤسسات الديمقراطية في ظل الإحباط المتصاعد للناخب وعجز الانتخابات عن تلبية حاجاته. ولتوضيح هذه التغيرات يعود المؤلف في كتابه الحالي ليتابع عملية تشريح الديمقراطية ومساءلة آلياتها الداخلية. فنظرياً كل شيء يبدو بسيطاً عندما نتحدث عن الديمقراطية، حيث شرعية النظام تنبع أساساً من الإرادة التي يعبر عنها الشعب بحرية تامة، لكننا نعرف أيضاً أن الإرادة الشعبية ليست عامة مادامت الأغلبية هي تعبير جزئي عن إرادة الشعب حتى لو كانت الجزء الأكبر. هذا الاختلال في الحكم المتأصل في النظام الديمقراطي والذي يمنح الغلبة لفئة على أخرى داخل المجتمع ويعطي الأكثرية الشرعية، لابد من ضبط تداعياته وتحجيم أي شطط قد يصاحب ممارسة الأغلبية للحكم. وهنا يشير الكاتب إلى تطور فريد من نوعه في الديمقراطيات الكبرى تمثل في إنشاء سلطات عمومية تمتاز بالاستقلالية، وخصوصاً بالحيادية جاءت استجابة لاختلالات الشرعية الانتخابية. فقد استُحدثت الإدارة العامة، أو السلطات العمومية كجسم مستقل عن السياسة وبعيد عن الصراعات الحزبية، لتقف على الحياد وتضمن تحقيق الصالح العام. لكن التطور الديمقراطي الذي أدرك عجز الشرعية الانتخابية لوحدها في التعبير عن إرادة الشعب، سيتجاوز الدور الحيادي للإدراة العمومية، أو ما يسميه الكاتب بالشرعية الحيادية إلى متغير آخر أملته التحولات الاجتماعية والاقتصادية ونشوء نمط من الفردية غير مسبوق. وأمام التطورات المتلاحقة التي يرصدها الكاتب في البناء الديمقرطي للشعوب والأمم، يرى بأن مصادر الشرعية المتعارف عليها، والتي تشكل الأرضية الصلبة للديمقراطية مثل الشرعية الانتخابية، باتت غير كافية اليوم، مشيراً في هذا السياق إلى ثلاثة أشكال جديدة للشرعية الديمقراطية. هذه الشرعيات الجديدة، إن صح التعبير، تأتي لإصلاح أعطاب الديمقراطية الانتخابية وتوسيع طبيعتها التشاركية من جهة وتنظم العلاقات بين السلطة والناخبين من جهة أخرى. وهكذا يبدأ الكاتب بشرعية الحياد التي تجسدها السلطات العمومية المستقلة، ضارباً مثلاً بـ"اللجنة الوطنية للمعلومات والحريات" التي أنشئت في فرنسا عقب القرار الحكومي بجمع بيانات حول المواطنين، ما أثار نقاشاً حاداً وفرض تشكيل اللجنة المستقلة لمراقبة البيانات وضمان عدم الإساءة في استخدامها. الكاتب يشير أيضاً إلى نوع آخر من الشرعية الديمقراطية يسميه بشرعية التأمل والمراجعة المستمرة التي تتمثل في وضع آليات للتصحيح تصوب اختلالات الديمقراطية الانتخابية مثل المؤسسات الموكل إليها التحقق من دستورية القرارات لتجسد الضمير الحي للديمقراطية الذي يحافظ على الذاكرة الجماعية للمواطنين ويصون المبادئ العامة للمشاركة السياسية. وأخيراً يحيل الكاتب إلى شرعية القرب التي تعيد الثقة بين الحاكم والمحكوم في النظام الديمقراطي، فالمعروف مثلًا أن العلاقة بين السياسي والناخب أثناء الانتخابات تكون وثيقة وقريبة بفعل الاحتكاك اليومي للمرشح بالناخبين والوعود التي يطلقها، لكن ما يحدث بعد تولي المنصب هو ابتعاد السياسي وتجرع الناخب للإحباط، بحيث تتشكل علاقة جديدة تحكمها الضوابط التقليدية في صلة الحاكم بالمحكوم. فشرعية القرب تتطلب، حسب الكاتب، تقريب المسافات بين السياسي والمواطن خارج فترات الانتخابات، وذلك من خلال مؤسسات وأجهزة أهمها الإعلام والسلطات المحلية، مشيراً إلى ما يعرف في فرنسا بشرطة القرب. وتبقى في الأخير الإشارة إلى أحد الملامح المهمة التي يشدد عليها الكاتب، والمتمثلة في إعادة الاعتبار للبعد السياسي في التطور الديمقراطي، محذراً من طغيان التبسيط على الانتخابات وتحويلها إلى مجرد آلية سطحية للجدل العقيم. فالديمقراطية أولاً وقبل كل شيء هي إفساح في المجال للصراع السياسي واختلاف البرامج والرؤى التي تمنح فرصة الاختيار للمواطن وتعيد ثقته بالمستقبل. زهير الكساب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكتاب: الشرعية الديمقراطية: الحياد والتأملية والقرب المؤلف: بيير روزانفالو الناشر: سوي تاريخ النشر: 2008