ليست الحياة سوى إحياء تدريجيّ للطفولة. ففي الحنين إلى الماضي البعيد، تبدو اللحظات الأليمة في حينها جميلةً في الذاكرة، الأمر الذي يزيد حلاوتها. هذا ما يحصل على سبيل المثال مع شخص وقع في خندق ولوى كاحله، واضطرّ للمكوث في المنزل بسبب الجبس المنقوع بزلال البيض. لديّ ذكريات عزيزة على قلبي لليالي التي أمضيتها في ملجأ من الغارات الجويّة خلال الحرب العالميّة الثانية. كانوا يوقظوننا من النوم العميق، ويلقون فوق ثياب النوم معطفاً، ويصطحبوننا إلى غرفة رطبة معتمة تحت الأرض، مشيّدة من الباطون المسلّح. كنا نلعب لعبة المطاردة، في حين كان دوي الانفجارات البعيد يسمع فوق رؤوسنا. هل كان صوت إطلاق نار من المضادات الأرضيّة أو صوت القذائف المتساقطة؟ لم نكن نعرف. كانت أمهاتنا يرتجفن من الخوف والبرد، إلا أن المغامرة كانت غريبة بالنسبة إلينا جميعاً. هذا هو الحنين بنظركم. وهكذا نتقبّل كلّ الذكريات التي تتعلّق بفترة الأربعينيات المريعة. وهكذا نشيد بالسنوات التي عشناها حتى الآن. كيف كانت تبدو المدن الإيطاليّة في تلك الأيام؟ كان الظلام قاتماً في الليل، عندما أجبر التعتيم المفروض عليها المارين القلائل على استخدام مصابيح الدراجات الأماميّة التي زُوّدت بالكهرباء من مولدات صغيرة تعمل من خلال الضغط المتواصل على نوع من المقداح. وبعد فترة قصيرة، فُرض حظر التجول ولم يعد يُسمح لأي شخص بالتواجد في الطرقات. أما في النهار، فكان الجيش الإيطاليّ يسيّر دوريات في المدن، أقلّه حتى عام 1943 عندما احتلّ جنود موسوليني ثكنات المدينة. وقد أُقيمت هذه الدوريات بشكل مكثّف أكثر في أيام الجمهوريّة الإيطاليّة الاشتراكية التي تولّى النازيون إدارتها، فقد كانت فرق البحارة من شعبة "سان ماركو" تواظب بانتظام على تسيير دوريات في المدن الكبيرة، في حين اعتادت البلدات الريفيّة على رؤية مجموعات من الموالين. لقد كانوا جميعهم مدججين بالأسلحة. كانت تُمنع التجمعات من حين إلى آخر في هذه المدن التي أضفي عليها طابعاً عسكريّاً، لكن أعضاء حركات الشباب الفاشيّة كانوا يحتشدون في كلّ مكان، بالإضافة إلى تلامذة المدارس في المرحلة الابتدائيّة وهم يرتدُون سراويلهم السوداء لدى مغادرتهم الفصول الدراسية عند الظهر. لقد كانت الأمهات يغامرن بالخروج لشراء ما كان متوفراً من الطعام الشحيح. وإذا كنت تريد تناول الخبز، ليس الخبز الأبيض، بل شيء يحتوي على القليل من الطحين بدل النشارة، فكان عليك أن تدفع مبلغاً باهظاً في السوق السوداء. لقد كانت الأضواء في المنازل خافتة، في حين كانت التدفئة محصورة بالمطبخ فقط. في الليل، كنا نضع في السرير قرميدة ساخنة، ولديَ ذكريات عزيزة حتى عن التشقق في أطرافي. اليوم، لا يمكنني القول إن تلك اللحظات عادت، ليس كلّها بالطبع. غير أنني بدأت أشعر بها. فأولاً، ثمة فاشيون في الحكومة الإيطاليّة. ليسوا فاشيين بكل ما للكلمة من معنى، لكن قلما يهمّ ذلك. فلقد أصبحنا نعلم جيداً أن التاريخ يأخذ أولًا شكل مأساة وبعدها شكل مزحة. في الأربعينيات، كانت الجدران مغطاة بملصقات تظهر رسماً كاريكاتورياً كريهاً لأميركيّ أسود ثمل وهو يحاول الوصول بيديه المعكوفتين إلى تمثال "فينوس دي ميلو". أما اليوم، فأرى على التلفاز آلاف الوجوه من العرق الأسود يعانون من سوء تغذية، وهم يتدفّقون إلى أوروبا. وبصراحة، يشعر الإيطاليون بخوف أكبر من الذي اعتراهم في الماضي. لقد عادت الأثواب السوداء الواقية إلى مدارسنا، ولا أمانع في ذلك. فهي أفضل من القمصان التي يحبّذها شبان اليوم. إلا أنني قرأت للتو في إحدى الصحف أن محافظ نوفارا الذي ينتمي إلى حزب "الرابطة الشماليّة" المعادي للهجرة، أصدر أمراً يمنع تجمّع أكثر من ثلاثة أشخاص في المتنزهات بعد حلول المساء. وأنا أنتظر عودة حظر التجوّل على طريقة مارسيل بروست. يحارب جنودنا في أفغانستان، رغم انتهاء معاركهم في أفريقيا. غير أنني أرى أيضاً في شوارع المدن الإيطاليّة وحدات عسكريّة مسلّحة جيّداً في ملابس مموهة. كما في الأيام الغابرة، لا يحارب الجيش على الحدود فحسب، بل يقوم بدور الشرطة أيضاً. أشعر وكأنني في فيلم "روما، مدينة مفتوحة" لمخرجه روبيرتو روسليني عام 1945، والذي تدور أحداثه حول فترة الاحتلال النازيّ لروما. أقرأ المقالات وأستمع إلى الأحاديث الشبيهة إلى حد كبير بالتي كنت أقرأها في المجلّة الترويجيّة الفاشيّة "لا ديفيسا ديلا راسا" أي "الدفاع عن العرق"، والتي لم تهاجم فقط الشعب اليهودي، بل أيضا الغجر والمغاربة والأجانب عامة. أصبح سعر الخبز باهظاً جداً، وتقول الحكومة إنه علينا التوفير في الوقود والكهرباء وتعتيم واجهات المحلات التجاريّة في الليل. بالكاد نرى بعض السيارات، ولقد ظهر مجدداً سارقو الدراجات. ولإضفاء لمسة جديدة مميّزة، أظن أن تقنين الماء في طريقه إلينا. لم تعرف إيطاليا قطّ حكومة للشمال وأخرى للغرب، لكن يسعى البعض إلى تحقيق ذلك. --------- توزيع خدمة نيويورك تايمز