نادرة هي الدول التي تتباهى بقدرة قيادتها السياسية على العمل بشكل مستقل تماماً، أو إلى درجة كبيرة، عن "المؤسسة" العسكرية -الأمنية فيها! فما من مجتمع سياسي يستطيع الادعاء أنه "جمهورية أفلاطون"! ووزن وتأثير ودور "المؤسسة العسكرية -الأمنية" الإسرائيلية في الحياة السياسية لم يقتصر على التدخل (وأحياناً الحسم) في مسائل ميزانيات "الدفاع" فحسب، وليس فقط في مجال المشاركة النشطة في إدارة الحروب، وإنما هو يتعدى ذلك إلى تقرير الاستراتيجيات السياسية وتحديد "أهداف القتال" نيابة عن القيادة السياسية. فإسرائيل عاشت، وتعيش، في ظل ديناميات متغيرة جعلت وزن وتأثير ودور المؤسسة العسكرية -الأمنية فيها بين جزر ومد. والمتتبع لمسار نشأة هذه المؤسسة، والذي يعود إلى مرحلة ما قبل قيام إسرائيل، يلحظ أن دورها لا يقتصر فقط على الجيش والقوات المسلحة، مثل أي دولة طبيعية أخرى، وإنما يتعداهما ليشمل عدة مؤسسات داخل المجتمع الإسرائيلي، كوزارة "الدفاع"، ومجموعة المؤسسات المرتبطة بها كالأجهزة الأمنية وحرس الحدود، وأجهزة المخابرات العسكرية والسياسية، ومعاهد الدراسات الاستراتيجية، والصناعات العسكرية، والمفاعلات النووية. والمؤسسة العسكرية -الأمنية تتمتع بدرجة كبيرة من التكيف والاستقلالية. وخلاصة القول: هي المسؤولة عن بلورة النظرية الأمنية الإسرائيلية وترسيخ الاعتقاد بأهمية القوة العسكرية في تحقيق أهداف إسرائيل. مؤخراً، قامت وسائل الإعلام الإسرائيلية من جديد بتوجيه انتقادات حادة للمؤسسة العسكرية -الأمنية التي كانت في العموم بعيدة عن النقد، قبل أن تنكشف أمام الرأي العام الإسرائيلي، ولم يعد باستطاعتها إحاطة نفسها بتلك الهالة التي تحول دون ملاحظة ملف الانتقادات القاسية الموجهة إليها من قبل مجلس الوزراء والكنيست وحتى من قبل مؤسسات المجتمع المدني. وهو حقاً، "ملف دسم" يعرض لحالات التعارض (التباين) بين المستويين السياسي والعسكري الإسرائيليين. وكي لا نغوص في "الطبقات المتراكمة" لذلك الملف، حسبنا الإشارة إلى ثلاث حالات حديثة: أولاها عامت على سطح الأحداث يوم دب الخلاف قبل نحو شهرين داخل صفوف المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بين جهاز الأمن العام (شاباك) وجهاز الـ"موساد" من جهة، وبين هيئة الأركان العامة للجيش من جهة أخرى بشأن صفقتي تبادل الأسرى مع "حزب الله" و"حماس”. فرغم أن القرار، فيما يتعلق بصفقة التبادل مع "حزب الله"، بقي، في الظاهر، في يد القيادة السياسية، نجد أن كثيراً من المحللين الإسرائيليين يقرون بأن الصفقة أقرت أولاً بعلم هيئة الأركان العامة ورئيسها. هذه الحالة تعكس جوهر العلاقة بين المؤسستين السياسية والأمنية في إسرائيل على مر الأعوام. فالباحث الجامعي "كوبي ميخائيل" (في كتابه "بين العسكرية والسياسة في إسرائيل -تأثير الجيش على عمليات الانتقال من الحرب إلى السلام"، صدر مؤخراً عن جامعة تل أبيب) يؤكد: "إن أياً من الباحثين السابقين لم ينظر إلى الجيش الإسرائيلي باعتباره معزولاً عن التأثير السياسي والتدخلات السياسية. وقد تمحور اهتمام الجمهور والمؤسسة السياسية في إسرائيل، دائماً وأبداً، حول مسائل الأمن العسكري والأمن القومي، كما انصب دائماً اهتمام شديد على المؤسسة الأمنية بشكل عام وعلى المؤسسة العسكرية بشكل خاص، وأضحت هذه الأخيرة الجسم المنظم الأكبر والأشد أهمية في إسرائيل، واعتبرت في نظر المجتمع وقادته منظمة ذات قدرة تنفيذية عالية". وبالعودة إلى الوراء سنتين، نضع أنظارنا على الحالة الثانية التي طفت على السطح مع بدء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان صيف عام 2006 حين عاد موضوع العلاقة بين المؤسستين السياسية والعسكرية في إسرائيل إلى صدارة الاهتمام. فبعد انتهاء الحرب، أخذ الموضوع أبعاداً مضاعفة في ضوء حقيقة جديدة وهي أن تلك الحرب كانت الأولى، على الأقل منذ ربع قرن، التي تولى فيها سياسيان لا ماضي عسكريا أو أمنيا لهما منصبي رئيس الحكومة ووزير "الدفاع" (إيهود أولمرت وعمير بيرتس)، حيث قررت المؤسسة العسكرية مجريات الأحداث ميدانياً، ويوما بعد آخر حصلت على ضوء أخضر من المؤسسة السياسية بل على تفويض بتوسيع نطاق العمليات. أما ثالثة الحالات فقد تجلّت عندما كثر الحديث عن أن بعض القادة العسكريين يهتمون بشؤونهم الخاصة بالدرجة الأولى. فحين أعلن عن قيام رئيس الأركان السابق (دان حالوتس) ببيع أسهمه في البورصة قبل أيام قليلة من شن الحرب على لبنان (مستفيداً من المعلومات التي حصل عليها بحكم موقعه ومسؤولياته) انفتحت شهية عدد من السياسيين والصحفيين على الإدلاء بآرائهم. فهذه الواقعة أحدثت شرخاً بين دور ومهام المؤسسة العسكرية والمجتمع المدني من جهة واتساع الانقسام الاجتماعي الإسرائيلي الداخلي"، كما يقول الدكتور (يورام بيري)، في كتابه "جنرالات في مجلس الوزراء". وعلى صعيد النقد العام وإعلان الاستياء من الحال الذي انحدر إليه الجيش، كتب "امنون شاحاك" الذي كان يشغل رئيساً لشعبة الاستخبارات العسكرية ورئاسة الأركان يقول: "العلاقة المباشرة بين الجيش والمجتمع المدني، والتي ميزت الجيش على الدوام وأسهمت في قوته، قد اختلت وأصبحت مصدراً للكآبة. الاستقطاب والانغماس في الملذات واللامبالاة والاستغلال والانتهازية أفسدت الإجماع القومي ووجدت في الجيش هدفاً لتوجيه اللكمات". ويضيف شاحاك: "لقد ابتعدنا عن الأيام التي كان الجيش فيها مصدراً للاعتزاز والاحترام وبات الناس ينظرون إلينا كمغفلين أو أصحاب ملايين. اليوم الإسرائيلي الناجح كما يراه الكثيرون هو الشخص الذي ينجح في البورصة ويستثمر في العقارات وعلى جواز سفره أختام تدل على قيامه برحلات للتزلج على الجليد والتسوق وقضاء الإجازات في الخارج"! وفي السياق ذاته، يرى البروفيسور "رؤوبين بدهتسور" أن إسرائيل، خلافاً لكل الديمقراطيات الأخرى، "تتميز بالغياب المطلق تقريباً للرقابة البرلمانية على جهاز الأمن. لا توجد دولة ديمقراطية أخرى في العالم تعمل فيها المؤسسة العسكرية -الأمنية بصورة ذاتية كاملة من دون أن تكون هناك محاولة، ولو شكلية، لمراقبة ما يحدث فيها". ويضيف: "وفي غياب الرقابة الخارجية، من غير الممكن منع حدوث أخطاء تؤدي إلى اخفاقات وإنفاقات مالية على تطوير أجهزة قتالية غير ضرورية، ومن غير الممكن مراقبة الموازنة الأمنية التي تقضم جزءاً كبيراً من الموازنة العامة بنسبة تفوق مثيلاتها في كل الدول الغربية ببضعة أضعاف"! إذن، فإن تنامي دور المؤسسة العسكرية -الأمنية هو ظاهرة "طبيعية" في سياق حالة إسرائيل الأمنية الناجمة عن توسعيتها الدائمة وعن رفضها المستمر للسلام، وكذلك العقيدة الصهيونية والتراث الثقافي اليهودي اللذين يركزان على أهمية القوة والقتال في تحقيق الأهداف الصهيونية، مثلما يضفيان أهمية كبيرة على القوة والنخب العسكرية في إدارة الصراع. وفي الماضي قيل مرارا "إسرائيل جيش له دولة، وليست دولة لها جيش"!