نعيش هذه الأيام المباركة في كنف شهر "حشيم" بمعنى أن الفرد فيه لا يعذر إذا لم يتمسك بخصائص الصيام في حركته وتصرفاته بعد أن توفرت في شهر الصوم كل سبل الالتزام بالأخلاق العظيمة. والحشمة جزء مهم من سلسلة الفضائل التي لا تخص رمضان وحده، لأنها مما هو متعارف لدينا على مر السنين، وليس هناك خلاف حولها من حيث المبدأ. إلا أن الإشكالية، تقع عندما تتحول الدعوة إلى هذه الفضيلة إلى فتنة "مجتمعية" من حيث كيفية الوصول إلى المثالية في ارتداء المحتشم من الثياب وهو المعني على وجه الدقة التي تعلق بها تعاميم على مداخل بعض الأسواق المركزية والجمعيات التعاونية التي تطالب المتسوقين بمراعاة الاحتشام عند الدخول إلى هذه الأماكن. ولا نعرف من أين جاء القائمون على هذه المراكز بالسند القانوني لوضع تعاميم رسمية للالتزام بهذا الأمر وإلا تعرض غير المحتشم إلى المساءلة أو المنع من الدخول إلى المركز أو الطرد منه إذا استدعى الأمر. وغاب عن هؤلاء أن في مجتمع الإمارات أكثر من 200 جنسية تختلف مفاهيمها عن "الحشمة" وفقاً لعاداتها وأعرافها وتقاليدها ومعايشتها مع الآخرين، وليست هناك في القوانين المرعية بالدولة نصوص تجبر المرأة في المجتمع بلبس معين، لأن ذلك يصعب ضبطه، فالقصير والطويل أمر نسبي لدى مختلف المجتمعات ولا يمكن أيضاً إجبار كافة الجنسيات بالدولة الالتزام بالملابس الخاصة بالمرأة الإماراتية، لأنها هي كذلك ليست موضع إجماع. أين نقطة الفتنة أو الإشكالية الاجتماعية في هذا كله؟ فإذا كانت الدولة هي مركز التشريع والتقنين في المجتمع فما دخل بعض الأفراد والمؤسسات التي تريد أن تحشر فتنة "الحشمة" في غير سياقها، وقد يرفع البعض راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو لو ترك الأمر على هذه الصورة لتعرض كل ساكن في هذا المجتمع المسالم إلى الأذى بطريقة أو بأخرى، حتى لو قيل لامرأة ممن يشار إليها بعلامة عدم الاحتشام، اذهبي واحتشمي، فمن بيده الإجبار والإلزام في هذه الحالة، فهذا السلوك بحد ذاته "فتنة" مبطنة بلبوس الغيرة على الأخلاق وغيرها من المبررات الواهية. إننا أمام قضية مجتمعية صغيرة جداً اليوم يمكن علاجها بتدريب بعض المحتجين باسم "الدين" علي سلوكيات غض البصر أو الجلوس في البيت لمن لا يستطيع الالتزام بهذا الخلق الرفيع والكفيل بإحراق فتنة "الحشمة" في مهدها، وهو العلاج الحاسم وإلا فإن إشعال "فورة" المسجات فيما بين الناس لنشر هذه القضية في صورتها الإلكترونية وكأن مصيبة كبرى حلت بالمجتمع، فلا ينم ذلك إلا عن وجود تيار يدفع بالهم المجتمعي إلى ناحيته الضيقة والمتطرفة. فالإمارات منذ عقود وهي تتعامل مع كافة البشر وعلى مختلف مشاربهم الفكرية والاجتماعية والحياتية، إلا أنها لم تدخل إلى هذه المسألة البتة لا من باب "الحشمة" ولا غيرها من الجزئيات التي وصفها القرآن بـ"اللمم" الذي يطهره الوضوء والاستغفار وغيرها من أنواع المطهرات الإيمانية. ولا داعي البتة لتحكم البعض، أفراداً أو مؤسسات، فيما يلبس الناس، ولو ترك المجال لهذا البعض لتدخلوا فيما نأكل ونشرب ولن تنتهي القصة عند هذا الحد، ولدرء الفتنة المفتعلة باسم "الحشمة" ينبغي على السلطات الرسمية بالدولة عدم السماح لمثل هذه الاجتهادات غير المقبولة اجتماعياً لسريانها في النسيج الاجتماعي حتى لا تتحول إلى مسألة دينية، ساعتها ندخل في بحر من السجال الذي لا طائل منه ورائه إلا القيل والقال والإغراق في التفاصيل التي تشغلنا عن أولوياتنا في المجتمع، فسدُّ هذا الباب من البداية فيه المصلحة العامة للجميع، فبذلك نمنع "الحشمة" من أن تكون "فتنة" من لا شيء.