تعتبر آلام الظهر من أكثر العلل التي تصيب أفراد الجنس البشري على الإطلاق. وهي الحقيقة التي تتضح من الإحصائيات التي تشير إلى أنه في الولايات المتحدة مثلاً، تحتل آلام الظهر المرتبة الخامسة على قائمة أكثر الأسباب الطبية خلف زيارات المرضى للأطباء. فمن بين كل عشرة أميركيين، يعاني تسعة من آلام الظهر في فترة ما من حياتهم، بينما يشتكي نصف من هم في سن العمل من آلام الظهر، مرة واحدة كل عام على الأقل. ولا يختلف الحال كثيراً في بريطانيا، حيث تعتبر آلام الظهر من أكثر المشاكل الطبية انتشاراً، لدرجة أن بعض التقديرات تشير إلى إصابة 17 مليون بريطاني بآلام الظهر. وهو ما يجعل آلام الظهر السبب الأول خلف طلب الإجازات المرضية في بريطانيا، مما يؤدي إلى خسائر اقتصادية ضخمة بسبب أيام العمل الضائعة، والتي تقدرها الحكومة البريطانية بخمسة ملايين يوم عمل سنوياً. ورغم أن هذه الإحصائيات صادرة من الولايات المتحدة وبريطانيا، فإنه لا يوجد سبب يدفعنا للاعتقاد بأن الوضع مختلف في بقية الدول، وخصوصاً الدول التي تتميز بنمط حياة مشابه لأنماط الحياة في الدول الغربية. لكن ما هي الأسباب خلف تألم الملايين، وربما عشرات الملايين، من ظهورهم؟ للإجابة على هذا السؤال، لابد أن نسترجع بعض المعلومات الأساسية عن التركيب التشريحي لمنطقة الظهر. بداية يجب أن ندرك أن منطقة الظهر تعتبر منطقة معقدة تشريحياً إلى حد كبير. ففي منتصف هذه المنطقة يمر العمود الفقري، والمتكون من 33 عظمة صغيرة، هي الفقرات. وتفصل بين هذه الفقرات أقراص غضروفية (الديسك) مكونة من مادة جيلاتينية رخوة، تحيط بها طبقة من الألياف الصلبة. وتعمل هذه الأقراص مثل "ماص الصدمات" الموجود في جميع السيارات، كي تمنع احتكاك وارتطام الفقرات ببعضها البعض. ويتم دعم وتقوية العمود الفقري، بمجموعة كبيرة من العضلات المتخصصة، ومن الألياف، والأربطة، والأعصاب، والتي تشكل مجتمعة منطقة الظهر. هذا التركيب التشريحي المعقد، هو السبب في أن الشعور بآلام الظهر لدى الكثيرين، يظل غالباً مجهول السبب. فبخلاف الأسباب المعروفة لآلام الظهر، مثل الإنزلاق الغضروفي، والتهابات المفاصل، وضيق القناة الشوكية، والإصابات المباشرة، والانتشار السرطاني، والعدوى، والكسور، والأمراض الالتهابية، يظل جزء كبير من آلام الظهر دون تفسير واضح. ولفترة طويلة فسر الأطباء الحالات التي لا تترافق بسبب مباشر وواضح، على أنها نتيجة تقلص أو تمزق في إحدى عضلات الظهر. وينتج هذا التقلص أو التمزق إما عن مجهود مفاجئ وعنيف كما هو الحال عند رفع جسم ثقيل بشكل خاطئ، أو نتيجة إصابة خفيفة، مستمرة ومتكررة، على العضلة (Repetitive Strain Injury). وتحدث مثل هذه الإصابات نتيجة وضعية الجلوس الخاطئ، أو وضعية القيادة الخاطئة، أو الوقوف بشكل خاطئ، أو النوم على فراش غير مناسب. ورغم أن هذه الأسباب قد تؤدي إلى آلام في الظهر، إلا أنها تزداد احتمالاتها مع الأشخاص زائدي الوزن، أو من يعيشون حياة من الكسل تخلو من النشاط البدني وممارسة الرياضة، مما يؤدي إلى ضعف عضلات الظهر، ويجعلها أكثر عرضة للتمزق والإصابة. لكن كثيراً ما كانت تفشل الأسباب سابقة الذكر، في تفسير العديد من حالات آلام الظهر المزمنة، مما جعل الأطباء يتجهون بتفكيرهم إلى الجانب النفسي لمرضاهم. فمن المعروف أن هناك عدداً من الأمراض، رغم أن أعراضها وعلاماتها تظهر بشكل عضوي، إلا أنه غالباً ما يكون سببها نفسيا، وهي المعروفة بالأمراض النفسجسمانية (Psychosomatic Diseases). لذا اتجهت شكوك الأطباء في أن التوتر الشديد أو المزمن، والاكتئاب، والغضب المكبوت، هي من الأسباب النفسية خلف الشكوى من آلام الظهر. وبالفعل أثبتت دراسة نشرت في إحدى الدوريات الطبية (Journal of Advanced Nursing)، أن النساء الغارقات في مهامهن المنزلية أو متطلبات وظائفهن، ينتشر الشعور بآلام الظهر بينهن بمقدار الضعف، مقارنة بقريناتهن اللائي يعشن حياةً أكثر استرخاءً. ويفسر العلماء هذه الظاهرة بالقول إن التوتر المزمن يتسبب في تقلص ألياف العضلات، وهو التقلص الذي يؤدي في النهاية إلى ضعف تلك الألياف، وزيادة قابلية العضلات للتعرض للإصابة بسهولة. والعكس أيضاً صحيح، حيث يؤدي التوتر النفسي وما يصاحبه من توتر في العضلات، إلى الشعور بآلام في العضلات المصابة من الأساس. والمشكلة أنه رغم أن تسعين في المئة من حالات آلام الظهر تشفى خلال شهر أو أقل، إلا أن العشرة في المئة الباقية يستعصي شفاؤها وتتحول إلى آلام مزمنة. وبالنظر إلى الملايين الذين يصابون بآلام في الظهر، يمكن لنا أن نتخيل ماذا تعني هذه العشرة في المئة، والتي تمثل الأعداد الهائلة ممن يظلون يعانون من تلك الآلام بشكل مزمن. ويجب التعامل مع آلام الظهر بشكل منهجي، بداية باستبعاد الأسباب الطبية المباشرة، مثل الانزلاق الغضروفي أو الكسور. ثم بتثقيف المريض حول كيفية تجنب تعريض أجزاء الظهر للإصابة، من خلال إدراك الأوضاع السليمة للجلوس، والقيادة، ورفع الأجسام الثقيلة، وغيرها من الإرشادات التي تمنع وضع ضغط مفاجئ أو متكرر على عضلات الظهر. وفي النهاية، استعراض الحالة النفسية للمريض، لاستبعاد الاكتئاب، والغضب المكبوت، والاضطرابات الأسرية العنيفة، والتوتر المزمن أو الحاد، سواء كان هذا التوتر في نطاق المنزل أو في بيئة العمل. د. أكمل عبد الحكيم