سبع سنوات مرت على وقوع الأحداث الإرهابية التى وجهت ضد الأهداف الاقتصادية والعسكرية الأميركية. وها هو الرئيس جورج بوش يلملم أوراقه استعداداً للرحيل النهائي عن الرئاسة بعد سبع سنوات عجاف، تدهورت فيها سمعة الولايات المتحدة الأميركية، وفقدت بريقها، وخسرت سمعتها باعتبارها رمزاً للديمقراطية وحصناً لحقوق الإنسان. وأبعد من ذلك لقد خسرت الولايات المتحدة الأميركية سمعتها العسكرية باعتبارها أقوى قوة حربية في العالم المعاصر. ومع ذلك فهذه القوة الجبارة هزمتها المقاومة العراقية وجماعات الإرهاب في العراق باعتراف القادة العسكريين الأميركيين. بل إن نظام طالبان الذي أسقطته الولايات المتحدة الأميركية بعد غزو عسكري سريع سقط فيه آلاف الضحايا أخذ الآن يستعيد قوته في أفغانستان، ويسيطر على المسرح من جديد، ويوقع خسائر جسيمة ضد قوات التحالف، مما جعل القيادة العسكرية الأميركية تصرح أن المعركة في أفغانستان الآن وليس في العراق! فشل ذريع أحرزه الرئيس بوش الذي يعتبر في نظر عديد من الخبراء أفشل رئيس أميركي على الإطلاق! وهو رئيس يفتقر للثقافة والخبرة والحنكة السياسية معاً! ولذلك كان من السهل على صقور الحرب من المحافظين الجدد السيطرة على عملية صنع القرار في البيت الأبيض بقيادة تشيني نائب الرئيس، الذي يعتبره الخبراء أقوى نائب رئيس شهدته أميركا، لأن هذا المنصب أشبه بمنصب شرفي لا يتمتع فيه شاغله بأي سلطات حقيقية. وبلغ من قوته أن بعض المعلقين السياسيين الأميركيين صرحوا مؤخراً بأنهم يخشون من أن يعمد تشيني إلى إعدام عديد من الوثائق التى تدين الرئيس بوش وتدينه شخصياً. وهذه الوثائق تتعلق بعملية الخداع الكبرى للجمهور الأميركي، والتي تمثلت في شهادات مزورة بناء على تقارير مصطنعة من المخابرات الأميركية، ذهبت إلى أن صدام حسين يمتلك أسلحة تدمير شاملة، من شأنها أن تلحق الخطر بالأمن القومي الأميركي وبالسلام العالمي. ولا يمكن للمشاهد المحايد أن ينسى صورة كولن باول وزير الدفاع الأميركي في جلسة مجلس الأمن الشهيرة والتي استمرت أكثر من ساعة في بث مباشر على التليفزيون، والتي قدم فيها الوثائق المزورة عن خطورة النظام العراقي مما يبرر غزو العراق عسكرياً! والواقع أن الهجمة الإرهابية على الولايات المتحدة الأميركية في سبتمبر 2001 كانت مغامرة حمقاء غير محسوبة من قبل تنظيم القاعدة بقيادة الإرهابي المتطرف الشهير بن لادن. وليس ذلك تجنياً على التنظيم أو على بن لادن، لأنه شخصياً بعد فترة من وقوع الأحداث اعترف بأن تنظيم "القاعدة" هو المخطط لها، بل وحيا أسماء الإرهابيين جميعاً بالاسم واحداً واحداً، مما يدل على عميق ارتباطهم بتنظيم "القاعدة". وهذه "الغزوة المباركة" بتعبير تنظيم "القاعدة" أدت إلى وقوع أضرار بالغة بملايين المسلمين الذين تعرضوا هم والدين الإسلامي نفسه إلى عملية تشويه أميركية وغربية منظمة، وكأن العرب والمسلمين هم مصدر الإرهاب العالمي! بناء على مغامرة تنظيم "القاعدة" الحمقاء، شن الرئيس جورج بوش بسرعة فائقة وبطريقة رد الفعل حربه الشهيرة ضد الإرهاب، والتي كان شعارها مًن ليس معنا فهو ضدناً. وبدأ بغزو أفغانستان وإسقاط نظام طالبان بتهمة أنه آوى بن لادن ورفض تسليمه، ثم سرعان ما انتقل إلى الغزو العسكري للعراق. والواقع أن تنظيم "القاعدة" الذي قام بمغامرته الإرهابية الحمقاء، قد هزم على كافة الأصعدة. وذلك لأنه تنظيم يقوم على فكر إرهابي بدائي مؤسس على العدوان والكراهية. ألم يصرح بن لادن بأن العالم مقسم إلى فسطاطين، فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان، وعلى المسلمين في فسطاط الإيمان أن يحاربوا الصليبيين في فسطاط الكفر إلى الأبد! ولو حللنا بيانات هذا التنظيم سواء صدرت عن قائده بن لادن أو نائبه الظواهري لأدركنا أننا أمام عقليات متطرفة تصوغ فكراً بدائياً لا علاقة له بالمرة بصحيح الإسلام. وهذه الجماعات الإرهابية تلجأ في سبيل حشد الأنصار من المسلمين البسطاء والسذج إلى ما أطلقت عليه في دراسة لي "التأويل المنحرف والقياس الخاطئ للآيات القرآنية والأحاديث النبوية". وهم يصوغون مذاهبهم الإرهابية مستندين في ذلك زوراً وبهتاناً إلى آيات القرآن الكريم، مما يمثل أبلغ إساءة للإسلام والمسلمين. وإذا كان بن لادن في مغامرته الحمقاء قد لاقى هزيمة مشهودة لأنه هو وتنظيمه ملاحق في كل بلاد العالم، فإن جورج بوش نفسه الرئيس الأميركي صاحب المغامرة الخطيرة، ونعني حربه المعلنة ضد الإرهاب التي هدمت بالفعل السلام العالمي قد هُزم هو الآخر هزيمة ساحقة. لقد سبق لي أن أعددت إطاراً نظرياً لدراسة أحداث سبتمبر عقب وقوعها مباشرة، إدراكاً مني بأنها ستغير من مسار الأحداث الدولية. وصدق ما توقعته لأن العالم ما قبل سبتمبر 2001 لم يعد يماثل العالم ما بعد سبتمبر! وعلى أي حال فإنني في هذا الإطار النظري المتكامل الذي نشرته في صدارة كتابي "الحرب الكونية الثالثة: عاصفة سبتمبر والسلام العالمي (القاهرة ودمشق عام 2003) بدأته بمناقشة موضوع "القطيعة التاريخية". وكان السؤال المطروح هو هل صحيح أن حدث الحادي عشر من سبتمبر 2001، كما وصف في كثير من الكتابات يمثل فاصلاً تاريخياً بين ما قبل وما بعد؟ وهل هو يمثل قطيعة تاريخية بين عصر وعصر، وعلى غرار القطيعة المعرفية في مجال الفكر؟ وما هي المعايير التي على أساسها يمكن القول بنهاية مرحلة تاريخية وبداية مرحلة أخرى؟ وهل عام 1993 الذي عادة ما يؤرخ به لنهاية عصر الحرب الباردة ونهاية النظام الثنائي القطبية، وبروز النظام الأحادي القطبية، يصلح حقاً لتحقيب العقد الأخير من القرن العشرين؟ أم أن النظام الأحادي القطبية هو استمرار – بصورة أخرى – للنظام العالمى السابق؟ وسؤال أخير: هل مرحلة ما بعد 11 سبتمبر ستؤدي كما يؤكد "هنري كيسنجر" إلى صياغة النظام العالمي للقرن الواحد والعشرين، أم أنها في الواقع استمرار للنظام العالمي قبل 11 سبتمبر، والذي كانت فيه الولايات المتحدة الأميركية هي القوة الأكبر؟ تساؤلات متعددة طرحناها في وقت مبكر حقاً عقب وقوع الأحداث مباشرة، في سياق إطار نظري صغناه حتى يكون بوصلة لنا في الدراسات المتعمقة التي قررنا أن نقوم بها لتحليل كل أبعاد ونتائج الحدث. ونحن اليوم بعد سبع سنوات من وقوع المغامرة المزدوجة، ونعني الهجمة الإرهابية بواسطة "القاعدة" من جانب والحرب ضد الإرهاب بواسطة الولايات المتحدة الأميركية من جانب آخر، في موقف يسمح لنا بالإجابة الدقيقة على كل هذه الأسئلة. مما لا شك فيه أن الإجابة على السؤال الأول الذي تحدث عن العالم بعد سبتمبر 2001 سيختلف عن العالم بعد سبتمبر هي بالإيجاب! نعم لقد كانت الولايات المتحدة الأميركية قبل سبتمبر تسلك باعتبارها القطب العالمي الأكبر، وذلك بعد انفرادها بالمسرح العالمي نتيجة لانهيار المنافس العنيد ونعني الاتحاد السوفييتي. غير أن الولايات المتحدة الأميركية بعد سبتمبر وعبر مرور السنين، أخذت تسلك ليس فقط باعتبارها القطب الأعظم المهيمن المتحكم في مسار العالم، بل إنها ظهرت للعالم باعتبارها الإمبراطورية الوحيدة التي تحكم الدنيا وتسيطر على مصير البشر! وجدير بالإشارة إلى أن موضوع الإمبراطورية الأميركية الجديدة كان محل بحث وخلاف بين عشرات العلماء السياسيين في العالم. وكان الرأي الغالب أن أميركا تحولت فعلاً إلى إمبراطورية، بل وصدرت عديد من الكتب الفرنسية والإنجليزية تحمل في عناوينها إشارات واضحة، مثل "إمبراطورية الشر" أو "أحزان الإمبراطورية" وغيرها كثير. وقد ظن زعماء "المحافظين الجدد" في إدارة بوش أن الإمبراطورية الأميركية ستعيش إلى الأبد، ولن تستطيع أي قوة عظمى أن تتحداها، غير أن الحملة التأديبية العسكرية الروسية ضد جورجيا وضعت ختاماً لهذا الحلم العبثي، لأن النظام الدولي – نتيجة لهذا الحدث التاريخي أخذ يتحول – ببطء وإن كان بثبات – من العالم الأحادي القطبي إلى العالم المتعدد الأقطاب.