بعد سنوات التفاؤل الكبير بخلاص سريع من نير الاستبداد والانتقال التدريجي نحو نظم ديمقراطية إنسانية، عاد الجمود واليأس ليخيما على المثقفين والناشطين العرب من جديد. وقد كان للاستراتيجية الأميركية التي تبنت مشروع الديمقراطية في السنوات الأولى من هذا القرن دور كبير في هذا الإحباط. فقد اعتقدت إدارة "المحافظين الجدد"، في سعيها لتحقيق حلم القيادة العالمية والانفراد بأجندة السياسة الدولية، أن توجيه ضربة أميركية قوية في الشرق الأوسط ضد أنظمة متهافتة اقتصادياً وسياسياً وفاقدة للشرعية، أنهكتها عقود طويلة من النزاع مع حركات التمرد الاسلامي، سيقدم لها فرصة لا تحلم بها لتحقيق انتصارات رخيصة، يتردد صداها عبر العالم كله، وتمكن الولايات المتحدة من تعزيز مواقعها، وتأكيد تفوقها الاستراتيجي ومقدرتها على التغيير وإعادة تحويل العالم وصياغته من جديد. وفي الوقت نفسه وضع اليد على أهم مخزون للطاقة النفطية التي سيحتاج إليها الاقتصاد الأميركي ليضمن تفوقه في المستقبل تجاه منافسة الأوروبيين والآسيويين القادمة. ولم يكن هناك أفضل من وضع مشروع "المحافظين الجدد" الاستراتيجي هذا في إطار مشروع دمقرطة النظم العربية لينالوا تأييد الرأي العام الأميركي والعالمي والعربي أو على الأقل تحييده. وهذا ما حصل بالفعل، وكان من نتيجته مصادرة الإدارة الأميركية مشروع الاصلاح العربي، واستخدامه للتغطية على سياستها الاستعمارية، وانقسام الرأي العام في الغرب وفي الشرق، بما في ذلك داخل أوساط الناشطين الديمقراطيين العرب، بين من يجعل أولويته مقاومة الغزو الأميركي، ومن يراهن على تغير الاستراتيجية الأميركية للاقتصاص من نظام الاستبداد العربي.. وأهم من ذلك، نجحت النظم الديكتاتورية في استخدام التبني الأميركي الكاذب للديمقراطية لتأليب الرأي العام العربي ضد مشاريع الإصلاح والانفتاح السياسي، وتصويرها على أنها بضاعة استعمارية ومصدر لزرع الانقسام والفوضى والخراب في المجتمعات العربية على شاكلة ما حصل في العراق. وبذلك تحول نظام الاستبداد في نظر الكثيرين إلى خندق الدفاع الأخير عن الاستقلال والسيادة العربيين، وصار العمل في صفه أو إلى جانبه تأكيداً على الانتماء القومي والوفاء الوطني. هكذا أجهضت الاستراتيجية الأميركية لإعادة هيكلة الشرق الأوسط الموسع، التي تبناها "المحافظون الجدد"، وطبقتها إدارة الرئيس بوش، منذ بداية هذا العقد، وكان احتلال العراق، وما رافقه وأعقبه من أحداث مأساوية لا تزال مستمرة إلى اليوم، الديناميكية الديمقراطية التي نشطت في المجتمعات العربية وأوساطها الثقافية منذ منتصف التسعينيات، وترافقت مع تنامي حركة المجتمع المدني. وليس ذلك بسبب إعادة ترتيبها الأجندة السياسية للمنطقة، واضعة في قائمة الأولويات طرد الاحتلال والحفاظ على الاستقلال الوطني فحسب، ولكن، أكثر من ذلك، بسبب مناخ القلق والإحباط الشديدين الذي نشرته المواجهات في العراق وفلسطين وغيرهما أيضاً لدى أوساط الرأي العام العربي عموماً، وقوى التحول الديمقراطية على وجه الخصوص. لقد عمل "المحافظون الجدد"، في ربطهم قضية الديمقراطية بمشاريع السيطرة الاستعمارية، على تقويض شرعية المشروع الديمقراطي وإظهاره بمظهر المشروع الأجنبي أو التابع للمصالح الغربية. وكانت نتيجة ذلك إعادة تثمين الاستبداد، وإضفاء طابع وطني عليه، وهدر عقود طويلة من التضحيات التي قدمتها الشعوب لمواجهته والتحرر منه. ويشكل هذا من دون شك أحد العوامل الرئيسية التي تفسر الوضعية التي تعيشها القضية الديمقراطية العربية اليوم، وتراجع الملتفين حولها، وتنامي الشك في إمكانية تحقيقها في العالم العربي، بعد أن ذهب الكثيرون قبل سنوات قليلة، في التفاؤل إلى حد الحديث، بعد تنظيم بعض الانتخابات التشريعية التعددية، عن ربيع ديمقراطي عربي. والحال أن ما حصل كان عكس ذلك تماماً. لكن هذا لا يعفي الديمقراطيين العرب من مسؤولياتهم، وبشكل خاص من مسؤولية القيام بالمراجعات الضرورية على صعيد الفكر والممارسة، وحل المعضلات التي تعيق تطور الحركة الديمقراطية. وفي اعتقادي أن خروج هذه الحركة من المأزق الذي دفعت إليه، وتغلبها على الحرب المضادة التي تتعرض لها في حقبة ما بعد حرب العراق، يرتبط في البلاد العربية بمقدرة القوى الديمقراطية على إيجاد أجوبة عملية على أربع إشكاليات قائمة تحد من نفوذ مشروعها في المجتمع والسياسة معاً: 1- العلاقة بين الديمقراطية وضمان السيادة الوطنية، أي الإجابة عن سؤال: ما العمل حتى لا تترجم الديمقراطية بتزايد نفوذ الدول الأجنبية الكبرى وتلاعبها بالمصير الوطني؟ 2- العلاقة بين الديمقراطية والمسألة الاجتماعية، ألا يكون التقدم الذي تحققه مجرد تقدم على مستوى الحريات، لا يؤمّن دمج الطبقات الشعبية والفقيرة في العملية الديمقراطية، وإنما يخدم مصالح النخب والطبقات الغنية. أي كيف تتحول الديمقراطية من ديمقراطية سياسية (وهذا ليس أمراً لا قيمة له) إلى ديمقراطية سياسية واجتماعية ترد على متطلبات الاندماج الوطني والعدل في الوقت نفسه. 3- العلاقة بين الديمقراطية والحركات الدينية، أي الإجابة عن سؤال: كيف يمكن للديمقراطية أن تتجنب أسلوب الإقصاء والاستبعاد لطرف من الأطراف الاجتماعية من دون أن تساوم على طابعها المواطني القائم على حيادية الدولة مذهبياً وتعاملها المتساوي مع جميع المواطنين. 4- العلاقة بين توطين الديمقراطية وأشكال الصراعات الإقليمية، أي الرد على سؤال: كيف يمكن تطوير وتعميق، بل تحقيق الديمقراطية في إطار استمرار الصراعات الإقليمية والتحديات الاستراتيجية وفي مقدم ذلك الصراع العربي- الإسرائيلي، وتنامي التوترات والنزاعات الأهلية الطائفية والقومية، بينما تحتاج الديمقراطية كي تزدهر وتستمر إلى بيئة مستقرة وسلمية. ومن هذه المعضلات ما يرتبط بعلاقة السياسة بالدين، ومنها ما يرتبط بعلاقة الديمقراطية بالوطنية، ومنها ما يرتبط بعلاقة الديمقراطية بالقضايا الاجتماعية، ومنها أخيراً ما يرتبط بعلاقة الديمقراطية بالتحولات الجيوستراتيجية العالمية أو العولمية، وهي النقطة التي سنتعرض لها في هذا المقال. فتقدم المسيرة الديمقراطية يرتبط منذ الآن بمقدرة الديمقراطيين على تحويلها هي والقيم التي تنطوي عليها إلى محور لإعادة بناء المجتمعات العربية، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً معاً، ولإدراجها الإيجابي والفعال في الحداثة. وهو ما يتطلب الدمج الخلاق داخل الفكرة الديمقراطية والممارسة المرتبطة بها بين قضايا المجتمع الحيوية والرئيسية، الثقافية منها والاجتماعية والاقتصادية والدينية والاستراتيجية معاً. وهذا يعني تحول الديمقراطية إلى رافعة لمشروع تغيير اجتماعي شامل، وإعادة بناء العقد الاجتماعي من حول القيم التي تؤسسها. ولا ينبغي أن تمنعنا النكسة الراهنة من الحلم ولا تدخل اليأس في نفوسنا. فتراجع الديمقراطية في البلاد العربية، مثل ما هو الحال في كل البلاد الأخرى، لا يمكن إلا أن يكون مؤقتاً. فالسعي إلى الحرية والعدالة والمساواة بين الأفراد هو محرك التاريخ وجوهر تطلعات مجتمعات العالم كافة، في وقتنا الحاضر. وليست هناك فكرة يمكن إعادة بناء الوعي العربي من حولها، في الثقافة والمجتمع والدولة، غير الفكرة الديمقراطية. وكل الأفكار الأخرى، ذات المرجعيات الدينية أو القومية تخلق مشاكل في هذا المجال أكثر مما تقدم حلولًا. ومع ذلك لا تملك الفكرة الديمقراطية موهبة أن تكون محور إجماع من تلقاء ذاتها. فهي تخضع أيضاً لقراءات متعددة وتحتمل ترجمات وتأويلات ومضامين متباينة.