بين تلاطم أمواج الأزمة المالية وحمى السباق الانتخابي الرئاسي، انزوت خلسةً مبادرة إدارة بوش في التوسط بين طرفي النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني على أمل التسوية السلمية للنزاع. وبسبب اتهامات الفساد المثارة بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت من جهة، وتسارع الأزمات واشتدادها بين كل من جورجيا وروسيا من جهة أخرى، أهدرت جهود كوندوليزا رايس ورحلاتها المكوكية الست عشرة إلى منطقة الشرق الأوسط خلال مدة 21 شهراً... ومعها أيضاً ذهب مؤتمر "أنابوليس" الذي عقد في العام الماضي، إضافة إلى أشهر عديدة من الاجتماعات والتفاوض الماراثوني بين طرفي النزاع. وليس ثمة أمل قريب لإحياء العملية السلمية بين الجانبين في أي وقت في المستقبل المنظور. والمرجح أن تستغرق "تسيبي ليفني" التي فازت بنتيجة انتخابات حزبها التمهيدية في الأسبوع الماضي، والتي تؤهلها لخلافة أولمرت في قيادة حزب "كاديما"، في مهمة تشكيل حكومة ائتلافية جديدة، لا يستبعد أن تنشغل بها لعدة أسابيع أو أشهر. ولكي تحقق "ليفني" نجاحاً في جهودها السياسية هذه، فإن عليها أن تقدم وعوداً مقنعة لشركائها الائتلافيين، وهو ما يجعل من إبرام صفقة سلمية بين طرفي النزاع أمراً مستحيلاً. وفيما لو أخفقت "ليفني" في مساعيها هذه، فإن البديل الوحيد المتاح لها هو القيادي اليميني المتشدد، بنيامين نتانياهو. تلك هي العقبات على الجانب الإسرائيلي. أما في الجانب الفلسطيني، فما أكثر العقبات والعوائق. ذلك أن الفلسطينيين لا يزالون على انقسامهم المدمر بين السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس "أبو مازن" في الضفة الغربية، وقيادة حركة "حماس" التي بسطت هيمنتها بالقوة على قطاع غزة. وإن كانت هناك أي مؤشرات يمكن قراءتها من مسيرة الحملة الانتخابية الرئاسية الحالية، فهي أن الدفع بعملية سلام الشرق الأوسط لن يحتل حتى المرتبة العاشرة في قائمة أولويات الإدارة الأميركية المقبلة. فإذا ما أخذنا بالانهيارات المالية المدوية التي شهدتها أسواق "وول ستريت" وفشل الحرب الأفغانية، وتصاعد العمليات العسكرية الأميركية في باكستان، ثم الصعود الروسي الإمبريالي الجديد في جورجيا وغيرها، إضافة إلى مصاعب حل الأزمة النووية في كل من كوريا الشمالية وإيران، نستطيع القول إنه من الصعوبة بمكان أن تشعر واشنطن بثقل وطأة الصداع المستمر الناشئ عن النزاع الفلسطيني الداخلي بين الضفة الغربية وقطاع غزة. وليس القصد من كل ما ذكر أن يكون حجة للإدارة الأميركية المقبلة تشطب بها دبلوماسية السلام في الشرق الأوسط، على غرار ما فعلت إدارة بوش منذ لحظة وصولها إلى البيت الأبيض. بل القصد هو أن تتوفر أرضية جديدة يبني عليها الرئيس الأميركي المقبل -سواء كان أوباما أم جون ماكين- مساعي جديدة لحل معضلة مستعصية ومستمرة. ويتطلب حل كهذا بناء عملية السلام من القاعدة إلى القمة، بدلاً من المحاولات السابقة التي قامت على الدفع بقيادات سياسية هشة وضعيفة باتجاه فرض صفقة سلمية فوقية لا أساس لها في الواقع. وربما يتطلب الوصول إلى حل كهذا بضع سنوات وليس مجرد أشهر فحسب. وليس المتوقع أن تكون ثمرة الحل وثيقة يوقع عليها كل من "ليفني" ومحمود عباس، وإنما يفترض أن تكون الثمرة الفعلية بناء مجتمع فلسطيني مزدهر ومعافى، تحكمه مؤسسات المجتمع المدني من صحافة مستقلة ومحاكم نزيهة وأحزاب سياسية ومنظمات غير حكومية، بوسعها الوقوف معاً وراء تسوية سلمية للنزاع مع إسرائيل. ومن المعروف عن المنشق السوفييتي السابق ناتان شارنسكي أنه ظل يدعو إلى حل كهذا منذ بضع سنوات، ما أثار عليه غضب أنصار عملية السلام في كل من واشنطن وإسرائيل. وهناك من اتهم شارنسكي بتبني هذه الاستراتيجية المماطلة لعلمه بأنها تطيل أمد تقديم إسرائيل التنازلات الحدودية اللازمة لإبرام صفقة سلمية مع خصومها الفلسطينيين. وهناك من يلومه بإغواء إدارة بوش ودفعها باتجاه دعم عملية التحول الديمقراطي الفلسطيني، التي أسفرت في نهاية الأمر عن فوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعية التي أجريت في شهر يناير من عام 2006. ومهما تكن الاعتراضات والانتقادات الموجهة إلى نهج شارنسكي السلمي هذا، إلا أنه يبدو أفضل بكثير من نهج سلام القوة الذي كان يدفع به كل من أولمرت ورايس طوال الفترة الأخيرة الماضية. ويرى شارنسكي أنه وفيما لو غيرت واشنطن سياساتها بحيث تنصب جهودها على بناء مجتمع مدني فلسطيني، بدلاً من الاستمرار في دعمها لمحمود عباس -الذي يشجعه البعض على الاستمرار في منصبه الحالي، على رغم انتهاء مدة ولايته من الناحية القانونية- فإنها سوف ترى مجتمعاً فلسطينياً مغايراً جداً للمجتمع الحالي الذي يسوده العنف والانقسامات الداخلية الطاحنة، خلال ثلاث سنوات فحسب. وعندها يصبح ممكناً انتخاب القيادات الفلسطينية التي يمكن أن نناقش معها قضايا الوضع النهائي مثل ترسيم الحدود النهائية لإسرائيل، ومصير اللاجئين والقدس إلى آخره. وجاء على لسان شارنسكي قوله -أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن برفقة بسام عيد، الناشط الفلسطيني في مجال حقوق الإنسان، الذي يعتبره نموذجاً لشريك فلسطيني يعول عليه: هناك من يقول إنه لم تبق لنا ثلاث سنوات ننتظرها. غير أن هذا هو الاعتقاد نفسه الذي دفع واشنطن إلى دعم القيادة الفلسطينية التقليدية -بدلاً من دعم الإصلاح قبل 15 عاماً- بل هي الفكرة نفسها التي لا ينفك البعض عن تكرارها، أي مناصرة القيادة بدلاً عن دعم الشعب الفلسطيني. ولكن تظل النتيجة دائماً واحدة، ألا وهي الخيبة ثم الخيبة ثم الخيبة. ----------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"