كتب فوكوياما عام 2001 في مجلة "نيوزويك" مؤكداً على أن "الثقافة" التي ستنتجها العولمة، تصبح هي السائدة في العالم، في حين تدخل الثقافات الكثيرة الأخرى في نفق يفضي بها إلى "صندوق منفصل عن السياسة وتُنسب إلى عالم الحياة الخاصة". جاء ذلك في مقالة الكاتب في بواكير تكوّن العولمة، حيث كانت وعودُ هذه الأخيرة آخذة في التطاول كماً ونوعاً، وقد خصص فوكوياما حديثه في الحقل الإسلامي. فإذا تشبث الإسلاميون والمسلمون بثقافتهم، فإن هذا لن يطول كثيراً. أما السبب الكامن وراء ذلك، فهو- بحسب الرجل- أن "أوراق اللعبة كلها تقع في يد واحدة، إلا إذا قبل المسلمون بالعلمانية مُعتَقَداً".(ضمن المقالة المذكورة بعنوان:الإسلاميون الأصوليون). فوِفْق فوكوياما، لا تضمحل الثقافات المذكورة، وإنما تمر بحلقة أخرى تتمثل في أنها تتحول إلى شأن خاص، وكما هو معروف، فإن شيئاً من قبيل هذا الكلام كان وما يزال يحتل حيزاً ملحوظاً في المصطلح الجامع "الثقافة للثقافة"، حتى حين تتحول هذه الأخيرة إلى حضور كثيف وواسع في المجتمع. وما نراه وهْماً معرفياً في قولة فوكوياما، يظهر في سلْخ "الثقافة" عن المجتمع العمومي وفي إلحاقها بحقل خصوصي، هو حياة الفرد الخاصة. وبذلك، تفقد الثقافة ما يجعلها ذات نسب اجتماعي، ومن ضمن ذلك كما لاحظنا، ما يشدّها إلى السياسة، أو يبعدها عنها، أو يقدم إليها مسوغات القيام بلعبة الشد إليها أو الابتعاد عنها. وبعملية تفكيكية أكثر دقة، نضع يدنا على ما يسعى فوكوياما إلى الوصول إليه، وهو أن "ثقافة العولمة" أو الثقافة التي تنتجها العولمة ستكوّن ما نعتبره هنا "مستقبل البشرية"، إنطلاقاً من أن الحامل التاريخي المُهيأ لها إنما هو "السّوق". ومن ثم، فإن البشر المعاصرين يترتب عليهم أن يتخلّوا عن ثقافاتهم، كما عن السياسة بوصفها نمطاً من التعامل بينهم وبين النُّظم الحاكمة، ليُحلّوا محلهما منظومة الثقافة السوقية الكونية. وقد نلاحظ أن فكرة فوكوياما وإنْ اكتسبت، لبعض الوقت، حضوراً في وسط مُنتجي الثقافة والسياسة في العالم، إلا أنها راحت -مع الأزمات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي أخذت تقتحم النظام العولمي بقوة منذ احتلال العراق حتى ظهور الأزمة الاقتصادية الحالية- تستقبل وتعيش حالة مفتوحة من الإخفاق. وثمة حلقة حاسمة تعبّر عن واقع الحال هذا الراهن، وهي التي تتجلّى في سقوط "القطب الواحد" فكراً وواقعاً، على نحو لم يعد التشكيك فيه صحيحاً ولا مُجدياً. ومن شأن ذلك أن يطرح بعض عناصر المنظومة العولمية الأيديولوجية على صعيد التساؤل التشكيكي، ومن ذلك التّسليع والتنميط الكونيان، وزحزحة السياسة، والثقافة، والهوية، والدولة، وغيرها. بيد أن هذا وذاك وذلك لا يعني أو لا يعني، بعدُ، سقوط تلك العناصر العولمية، ونشأة بدائلها من "خارج" النظام العولمي، وعلى قاعدة التشابك معه على نحو تاريخي. والحق، إن فوكوياما نفسه لم يعد يحمل الحماسة الأيديولوجية، التي كان يكرسها للوليد العولمي الجديد، في حينه. ومن المُلفت فعلاً أن يحدث ذلك على صعيد المصير التاريخي العولمي، بسرعة مذهلة. ويبدو أن هذا أمر يرتد -في شطرٍ منها- إلى أوهام القوة العظمى، حين يمتلكها فريق أو آخر في مرحلة تاريخية توحي بأن كل شيء، عدا شيئاً واحداً، راح يتساقط ويتهافت، أما هذا الشيء الوحيد فهو تلك القوة العظمى نفسها. إننا نلاحظ حالة تأخذ مداها في العالم الراهن، مُستلهمةً تاريخ سَمِيّاتها في الزمن المنصرم القريب، ونحن نرى أن ذلك أخذ يفصح عن نفسه في بعض العالم العربي. فمع تأزّم النُّظم الأمنية العربية، تتدفق نُخب وربما جموع من المثقفين والسياسيين العرب باتجاه الدعوة إلى إعادة النظر في تلك النظم، بسببٍ من ضعفها بذاتها ومن ضعف قوى السيطرة والقهر والعنف في بعض مواقع النظام العولمي. وها هنا، نجد أنفسنا أمام ما رآه هيجل في بعض "المفارقات" في تاريخ البشر؛ فإذا كان هذا الأخير في لحظة ما، يبدو كأنه قد وجد مآله الأخير والمطلق، فإنه في لحظة أخرى يشير إلى القادم من الأيام، الذي يحمل ما لا يستطيع قراءته أهل المطلقات.