الإعلان الأخير في"هراري"– زيمبابوي– منتصف سبتمبر 2008 باتفاق حزب الرئيس "موجابي"(زانو) وحزب الحركة الديمقراطية للتغيير بقيادة "تشيفانجيراي" ورفيقه المنافس في الحركة، تزامن مع إسقاط المحكمة في جنوب أفريقيا للاتهامات ضد رئيس حزب المؤتمر الوطني "جاكوب زوما" تجعل الرسائل التي تبعثها منطقة الجنوب الأفريقي منذ سقوط النظام العنصري أوائل التسعينيات، تثير دهشة المعلقين والمعنيين بقضايا تداول السلطة، أو تصفية الصراعات الداخلية باقتسام السلطة بين الأطراف المتصارعة. ولابد أن نضيف إلى ذلك المشهد، العناصر الإقليمية التي سرعان ما تتدخل لطرح مشروعات حل الصراع مثل تدخل دول منظمة التنمية لدول الجنوب الأفريقي (سادك) مع حضور ما للاتحاد الأفريقي نفسه. وهذه اللوحة جديرة بالتأمل الجاد في منطقتنا العربية، حيث لا ترد فيها حلول المشاركة الشعبية، أو تصفية الصراعات بشكل خارج الحلول على طريقة المماليك، أي حلول التصفية السياسية الشاملة ما لم تكن الدموية المباشرة، ولن أشير هنا للنماذج العربية، وإنما قد يكفي عرض بعض الأمثلة المقابلة على المستوى الأفريقي لنكتشف حالنا بسهولة. لعل أبرز الأمثلة منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي، كان اتفاق الأفارقة مع النظام العنصري بقيادة البيض على إعادة ترتيب السلطة والثروة معاً، بحيث فاز الأفارقة– ولو شكلياً– بالسياسة، وفاز البيض– شبه كلياً- بالاقتصاد. ثم بدأت العملية السياسية تأخذ مجراها لصالح إعادة التوازن تدريجياً. حتى كان فوز "جاكوب زوما" نفسه مؤخراً برئاسة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ضد محاولات"مبيكي" إبعاده بما أشيع عن ترتيب ست عشرة قضية فساد ضد "زوما"، وبراءته منها مؤخراً... وكان ذلك وعداً بتوازن توزيع الثروة والسلطة مع البيض في المرحلة القادمة، وعبر إجراءات دستورية وقانونية منضبطة ومؤسسية، تضمن استمرار تطور جنوب أفريقيا الديمقراطي في منطقة تحتل فيها المكانة البارزة كما نرى. هذه البداية التي احترم فيها الأفارقة مكانة جنوب أفريقيا الإقليمية، والتي جعلتها فعلاً رمانة الميزان في حل مشاكل موزمبيق ثم أنجولا، ذات الطابع المسلح، وهي التي انتهت أخيراً بحل مشاكل زيمبابوي ذات الطابع الدستوري ، وبحضور كثيف لمجموعة رؤساء منظمة (سادك) الإقليمية، التي جعلت لجنوب أفريقيا نفسها وزناً في حل مشاكل كينيا من قبل، بل وتمد يدها برفق إلى الصومال والسودان. ويتم هذا الجهد الدبلوماسي والسياسي من قبل الرئيس "مبيكي" الذي يواجه أزمة شخصية دستورية قوية مع حزبه، تشير إلى إمكانيات الحلول الديمقراطية للصراعات على السلطة بطرق متنوعة. والمثال الأبرز الآن بين هؤلاء جميعاً هو حالة "زيمبابوي"، والصراع العميق الذي نشأ بين حزب الاتحاد الوطني برئاسة "موجابي"، وحزب الحركة الديمقراطية للتغيير منذ انتخابات مارس 2008، وتم الاتفاق على حله هذا الأسبوع، ، ولنتناول دلالات بعضها من واقع الوثائق الكاملة التي وقعها الطرفان في هذه المناسبة: - كان تعديل هيكل السلطة بإدخال تشكيل مجلس الوزراء برئاسة زعيم المعارضة السابق، ومجلس اقتصادي وطني، ومجلس أمن وطني رغبة أكيدة من الطرفين في الحضور المشترك في السلطة، واقامتها على أسس تحديثية بدل نظام "الحكم الشمولي" للرئيس"موجابي وحزبه". ولكنه في نفس الوقت جعل القوات المسلحة تحت إمرة الرئيس، والبوليس والأمن والعدد الأكبر من الوزراء مع زعيم المعارضة السابق لضمان أمان المواطنين. - لابد أن نلاحظ أن رئيس البرلمان تم اختياره من المعارضة السابقة إلى جانب أغلبية مجلس الوزراء، لأن نظام "موجابي" كان يسلم منذ وقت مبكر بحصول حزب "تشيفانجيراي على الأغلبية في البرلمان رغم اتهامات التزوير التي لحقت به بسبب الموقف في انتخابات الرئاسة. وكانت مطامح تشيفانجيراي أعلى من قبول الاقتسام منذ وقت مبكر، بسبب الدعم الغربي الكبير له. بل ويلفت النظر هنا أيضاً أن السيد تشيفانجيراي، هو رئيس اتحاد العمال الأسبق والمدعوم طبعاً– في النظام الشمولي– بنفوذ الحكومة والحزب، ومعنى ذلك توفر ظروف موضوعية– ما لم نقل ديمقراطية– لخروجه من الحزب أو على الحزب، وتشكيل حركة سياسية (الديمقراطية للتغيير)، وفوزها في الانتخابات العامة بالأغلبية رغم رئاسة "موجابى"! -لم يشأ الرئيس "موجابى" وحزبه أن يبدو مهزوماً في توقيع اتفاق هراري، وإنما راح يسجل مسؤولية التدخل الأجنبي عن تدهور الموقف في بلاده لنكتشف مع جماهير زيمبابوي طبعاً– ومن خلال الوثيقة - كيف أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وبريطانيا– أو فرضت بنفوذهما عبر القنوات والهيئات الدولية، قد شملت مصادرة كافة مناحي الحياة لشعب زيمبابوي. وفي مادة خاصة بطلب رفع العقوبات(المادة الرابعة من الاتفاق)، أشارت إلى حوالى عشرة إجراءات قاسية من هذا النوع عن منع القروض والمساعدات وأشكال التعاون والمصادرات من قبل معظم بلاد العالم، بما يفسر ما يتردد عن وصول معدل التضخم في زيمبابوي إلى أحد عشر مليوناً في المائة كصورة كاريكاتورية في الاقتصاد العالمي، بينما يتمتع شعب زيمبابوي بثروات معروفة معدنية وزراعية، ويتمتع بعلاقات وثيقة مع عدد من دول أميركا اللاتينية ودول عربية وإيران وغيرها، ولكن الموقف يكشف عن لعبة الإعلام الدولي وهيئات المال الدولية التي تمسك بزمامها الدوائر الغربية الكبرى حالياً. وبعدما كشف الموقف كله عن طبيعته في ظروف المصالحة، انطلقت هذه الهيئات جميعاً تعد بالمساعدة العاجلة بحوالى مليار ونصف المليار من الدولارات، ولحين اتمام الدعم الشامل خلال السنوات العشر القادمة! وليس معنى ذلك إلا رسالة متجددة بأنهم يستطيعون المنع والمنح، وأن المصائر في يد أصحاب المال الدوليين ما دامت لا تتحرك لدوائر المحلية أو الإقليمية بالشكل المناسب. -الرسالة الأخرى في الاتفاق جاءت حول "أرض زيمبابوي"وفي المادة الخامسة المطولة بدورها.وقد حرصت كل الأطراف على تسجيل مواقفها، وكان المعسكرالغربي وراء ضرورة تعديل مواد الإصلاح الزراعي الصادرة من قبل حكومة "موجابي" عام 2000، لاعادة تعويض الأراضي التي كان يسيطر عليها المستوطنون، ونجحوا في فرض ذلك بالطبع على الاتفاق، ولكن إدارة "موجابي"حرصت بدورها على تسجيل موقفها بتحديد أنماط الملكية الاستعمارية العنصرية للأرض في زيمبابوي قبل الاستقلال وبعده والحاجة إلى إقرار مبدأ المصلحة الوطنية والمساواة والعدل بشأنها، بل إن الاتفاق يعيد التنبيه لمسؤولية بريطانيا عن تعويضات المواطنين كما جاء في اتفاق الاستقلال 1981مثلما على حكومة "موجابي" النظر في تعويضات برنامج 2000. ومن الطريف هنا أن نذكر الاشارة التي وردت في مواد الأرض عن حق النساء بالكامل والعادل في ملكية الأرض وتعويضهن. وفي الاتفاق مواد كثيرة جديرة بالتأمل لكنها تظل جميعاً، في إشاراتها إلى الدستور الجديد، وإلى الالتزام بالتنفيذ الحقيقي، وإلى الدور الإقليمي تحديداً. مما يكشف عن قدرات متقدمة في التفاوض السياسي والاجتماعي، وحرص واضح على الوجود المشترك، في إقليم مثل جنوب أفريقيا بتوقيع اتفاق مماثل لما تم في كينيا منذ أشهر. ويثير ذلك التساؤل للمرة المائة: ما الذي يمنع وصول هذا النموذج إلى منطقتنا العربية، ونحن نعاني حالة الصومال والسودان دون تقدم على مر سنوات، وليس مجرد شهور كما رأينا في مناطق جنوب الصحراء؟ وباستثناء الحالة اللبنانية لظروف خاصة جداً. ما الذي يحول دون تفاوض معقول حول تقاسم عادل للثروة والسلطة في السودان تحضره كل الأطراف الوطنية والاجتماعية وتحول أو توقف أثر التدخلات الأجنبية الصارخة هناك؟ وما الذي يجعل التدخل باسم الجماعة الاقليمية، وأعني الجامعة العربية غير مقبول إلى هذه الدرجة إلى حد عدم التوافق على الحضور في رحابها من كافة الفرقاء وتعريض الموقف لتحله تدخلات الفرنسيين أو البريطانيين أو غيرهم؟ ولماذا يتكرر ذلك في العراق وفلسطين بشكل مضطرد بينما رأينا اضطراد الحلول في الجنوب الأفريقي من أنجولا إلى موزمبيق إلى زيمبابوي رغم الصعوبات الوفيرة بدورها هناك؟ هل يصعب تعلم لعبة اقتسام السلطة من الأفارقة.. ما دمنا نملك التاريخ والجغرافيا المناسبين لهذه اللعبة؟