يدرس ابن خلدون تطور الدول، من خلال كون الدولة: شخصاً يملك وعصبية تحكم، وعصبية غالبة وأخرى مغلوبة. إنها ثلاثة مستويات نوجز القول اليوم في الأول والثاني منها: أ- المستوى الأول: إذا نظر ابن خلدون إلى الدولة باعتبارها ملوكاً متعاقبين على الحكم، وجدها تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متعددة(...) لا تعدو في الغالب خمسة أطوار: 1- طور نجاح العصبية المطالبة في الاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها. ويكون صاحب الدولة في هذا الطور أسوة قومه، لا ينفرد دونهم بشيء منه، "لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد بحالها"! 2- طور استبداد صاحب الدولة (الرئيس، الأمير، الملك) على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة، منصرفاً إلى اصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع، والاستكثار في ذلك "لجدع أنوف عصبيته وعشيرته المقاسمين له في نسبه، الضاربين معه في الملك بمثل سهمه". 3- طور تحصيل ثمرات الملك من المال وتخليد الآثار وبُعد الصيت، "فيستفرغ (صاحب الدولة) وسعه في الجباية... وتشييد المباني... وإجازة الوفود... واعتراض (استعراض) جنوده وإدرار أرزاقهم... فيباهي بهم الدول المسالمة ويرهب الدول المحاربة". 4- طور القنوع والمسالمة، "ويكون صاحب الدولة في هذا قانعاً بما بنى أولوه، سِلماً لأنظاره من الملوك وأمثاله، مقلداً للماضين من سلفه". 5- طور الإسراف والتبذير، ويكون صاحب الدولة في هذا الطور "متلفاً لما جمع أولوه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته وفي مجالسه... مستفسداً لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه... فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون وهادماً لما كانوا يبنون". وفي هذا الطور الخامس تدخل الدولة مرحلة "ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه، ولا يكون لها منه برء، إلى أن تنقرض". لقد أفسد الحكم عصبية الدولة. وكما تفسد العصبية يفسد الحسب المكمل لها. وفساده راجع إلى أن وارثه يستفيد منه دون أن يعمل من جانبه، في الغالب، على تعزيزه واتساعه. لذلك كانت نهاية الحسب التلف والاضمحلال، وغالباً ما لا تتعدى مدته "في العقب الواحد أربعة آباء". ويشرح ابن خلدون السر في تحديد الحسب في العقب الواحد بأربعة آباء، وهو ما يوازي عنده مئة وعشرين سنة، فيقول : "... وذلك لأن باني المجد عالم بما عانى في بنائه، ومحافظٌ على الخلال التي هي سبب كونه وبقائه. وابنه من بعده مباشر لأبيه، قد سمع منه ذلك وأخذه عنه، إلا أنه مقصِّر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له، ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة، فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد. ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة وأضاع الخِلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها، وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكليف وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم، وليس بعصابة ولا خِلال، لما يرى من التجلة بين الناس، ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها، ويتوهم أنه النسب فقط، فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته، ويرى الفضل له عليهم وثوقاً بما فيه من استتباعهم وجهلًا بما أوجب ذلك الاستتباع من الِخلال... فيحتقرهم بذلك فينغصون عليه ويحتقرونه ويُديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت، ومن فروعه في غير ذلك العقب، للإذعان لعصبيتهم، بعد الوثوق بما يرضونه من خِلاله، فتنمو فروع هذا وتذوي فروع الأول وينهدم بناء بيته". بـ - المستوى الثاني: إذا كان تطور الدولة، باعتبارها شخصاً يملك، راجعاً إلى الحسب، فإن تطورها باعتبارها جماعة تحكم، يرجع إلى حال العصبية في هذه الجماعة، أي إلى مدى تدرج العصبية في أهل الدولة من القوة إلى الضعف، من الالتحام والتعاضد، إلى الانحلال والتخاذل. فكيف يتم هذا التطور، وما هي عوامله؟ يحدد ابن خلدون عمر الدولة، بهذا الاعتبار، في ثلاثة أجيال لا تتعداها في الغالب. والمقصود هنا، ليس الأجيال ذاتها، بل حال العصبية في كل منها. ومن ثمة فإن تطور الدولة بهذا المعنى إنما يعني تطور حال العصبية في الأجيال المتعاقبة الحاكمة. إن الجيل الأول من العصبية الحاكمة، هو ذلك الجيل الذي قام بالثورة، فهو جيل بدوي: نشأ في البادية وتربى فيها واكتسب أخلاقه وطباعه، وعلى العموم مختلف مظاهر شخصيته وسلوكه، من الظروف السائدة في المجتمع البدوي، القبلي. ورغم انتقاله إلى الحضر فإن قرب عهده بـ"عروبة البداوة" يجعله لا يزال "على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك بالمجد، فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم، فحدهم مرهف، وجانبهم مرهوب، والناس لهم مغلوبون". أما الجيل الثاني فهو يختلف عن الأول اختلافاً كبيراً. إن هذا الجيل قد تربى في أحضان الملك والرئاسة، ونشأ بالعاصمة، قلب المجتمع الحضري. وبما أن "الإنسان ابن عوائده ومألوفه، لا ابن طبيعته ومزاجه"، فإن حال هذا الجيل ستكون، قطعاً غير حال الجيل الأول، لقد تحولت حاله "بالملك والترف من البداوة إلى الحضارة، ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به وكسل الباقين عن السعي فيه، ومن عِز الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء وتؤنس منهم المهانة والخضوع". ولكن بما أن أفراد هذا الجيل قد "أدركوا الجيل الأول وباشروا أحوالهم وشاهدوا من اعتزازهم وسعيهم إلى المجد ومراميهم في المدافعة والحماية، فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية، وإن ذهب منه ما ذهب، ويكون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول أو على ظن من وجودها فيهم". فالجيل الثاني إذن جيل وسط، لم يغرق في الحضارة إلى الدرجة التي ينسى معها خلق البداوة بالمرة. أما الجيل الثالث والأخير، فإن أفراده "ينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ فيهم الترف غايته بما تفنَّقُوه من النعيم (استمتعوا به) وغضارة العيش، فيصيرون عيالاً على الدولة ومن جملة النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم، وتسقط العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة(...) فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر بالموالي، ويصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء حتى يأذن الله بانقراضها فتذهب الدولة بما حملت". نخلص مما تقدم إلى النتيجة التالية، وهي أن تطور الدولة عند ابن خلدون، وعلى هذين المستويين، إنما يعني تطور الأساس الذي قامت عليه العصبية والحسَب. إنه تطور العلاقات الداخلية بين الشخص صاحب البيت والرئاسة، وبين العصبية أو العصبيات التي ينتمي إليها هذا البيت الحاكم. وإذا كان ظاهر كلام ابن خلدون يدل على أن عوامل هذا التطور هي عوامل سيكولوجية واجتماعية محض: الاشتراك في المجد، بقاء خلق البداوة، الاستبداد، التقليد، التقصير.. الخ، فإن هناك وراء هذه المظاهر النفسية الاجتماعية عوامل أخرى موضوعية، عوامل اقتصادية في حقيقتها وعمقها... هذا ما سينكشف لنا من خلال دراسة تطور الدولة على المستوى الثالث، المستوى الأعم، الذي يضم كلية الدولة، باعتبارها شخصاً يملك، وعصبية تحكم، وعصبيات مرؤوسة مغلوبة على أمرها، كما سنبين في المقال القادم.