عادت قضية أمن وسلامة استخدام الأدوية والعقاقير الطبية لدى الأطفال، للظهور على السطح مرة أخرى هذا الأسبوع، مع نشر نتائج دراسة مثيرة في واحدة من أشهر الدوريات الطبية في العالم (The Lancet)، أظهرت وجود علاقة بين تعاطي الأطفال -وخصوصا في السنة الأولى من عمرهم- للعقاقير التي تحتوي على مادة الباراسيتامول (Paracetamol) وبين احتمالات إصابتهم بالأزمة الشعبية أو الربو، والأكزيما، وحساسية الربيع. هذه المادة والتي تعرف أيضاً باسم الآسيتامينوفين (Acetaminophen)، تتواجد في العديد من الماركات التجارية، مثل البنادول، والتيلينول، والأدول، والكولبول، وغيرها الكثير. حيث تعتبر من أكثر العقاقير استخداما لخفض درجات الحرارة لدى الأطفال والبالغين على حد سواء، وربما تكون أيضاً أكثر العقاقير الطبية استخداماً على الإطلاق. وتوصلت الدراسة التي تمت بإشراف علماء من معهد الأبحاث الطبية بنيوزيلندا (Medical Research Institute of New Zealand)، وشملت أكثر من 200 ألف طفل في 31 دولة إلى الملاحظات التالية: 1- تزداد احتمالات الإصابة بالأزمة الشعبية بمقدار 46% عند بلوغ عمر السادسة أو السابعة، لدى الأطفال الذين تلقوا العلاج بالباراسيتامول في السنة الأولى من حياتهم. 2- تزداد احتمالات الإصابة بحساسية العينين والأنف "حمى الربيع" بمقدار 48% عند بلوغ عمر السادسة أو السابعة، لدى الأطفال الذين تلقوا الباراسيتامول لخفض حرارتهم في السنة الأولى من حياتهم. 3- تزداد احتمالات الإصابة بأكزيما الجلد بمقدار 35% عند بلوغ عمر السادسة أو السابعة، لدى الأطفال الذين تلقوا الباراسيتامول لخفض حرارتهم في السنة الأولى من حياتهم. وهي الملاحظات التي يمكن تفسيرها على أن استخدام الباراسيتامول يتسبب في تغيرات في الجسم، تجعل هؤلاء الأطفال أكثر عرضة لأشكال الحساسية المختلفة. وتأتي هذه الدراسة في أعقاب دراسة أخرى نشرت في شهر مارس الماضي، وعرضت ضمن فعاليات المؤتمر السنوي للأكاديمية الأميركية للحساسية والأزمة والمناعة (American Academy of Allergy, Asthma & Immunology) وخلصت إلى أن الأمهات اللواتي يتعاطين الباراسيتامول، تزداد احتمالات إصابة أطفالهن بأعراض الأزمة الشعبية بمقدار 70%. ومثل هذه الدراسات قد تفسر الزيادة الهائلة والمطردة في عدد حالات الإصابة بالأزمة الشعبية بين الأطفال خلال العقود الخمسة الأخيرة، وهي الفترة التي تتوافق مع بداية استخدام الباراسيتامول في علاج ارتفاع الحرارة لدى الأطفال، بداية من عام 1956. ففي الولايات المتحدة، تظهر الإحصائيات الطبية إصابة واحد من بين كل عشرة أطفال أميركيين بالأزمة الشعبية، أو ما يعادل 6.5 مليون طفل تحت سن الثامنة عشرة. وعلى المستوى الدولي، تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن عدد المصابين بالأزمة الشعبية، يتراوح حالياً ما بين 100 إلى 150 مليون شخص حول العالم، مع التوقع بأن يزداد هذا العدد بنسبة 50% كل عشرة أعوام، وهو ما يعني أن عدد المصابين سيتخطى رقم المائتي مليون شخص في وقت قريب. وهذه الزيادة تحدث في جميع دول العالم تقريبا دون استثناء، فبخلاف الولايات المتحدة التي زادت نسبة الحالات فيها من 3.6% في عقد الثمانينيات إلى 9% حالياً، نجد أن عدد الحالات تضاعف في سويسرا مثلًا بمقدار أربعة أضعاف، ليصل حالياً إلى 8%، مقارنة بنسبة 2% فقط قبل ثلاثين عاماً. وفي أوروبا، وحسب إحصائيات مركز الحساسية ببلجيكا، تضاعف متوسط عدد الحالات في معظم دول القارة في غضون العشرة أعوام الأخيرة. ولكن في ظل هذه الإحصائيات، وتبعاً لنتائج الدراسات السابقة، هل ينبغي الامتناع عن استخدام الباراسيتامول في خفض حرارة الأطفال المصابين بالحمى، وخصوصاً في السنة الأولى من عمرهم؟ إجابة هذا السؤال أكثر تعقيداً مما يبدو للوهلة الأولى، وذلك لسبب مهم هو أن الدراسة السابقة اعتمدت على ذاكرة الأبوين بعد مرور خمسة أو ستة أعوام، في تحديد عدد المرات وحجم الجرعات، التي استخدموا فيها الباراسيتامول لخفض حرارة أطفالهم، وهو ليس بالأسلوب العلمي الدقيق. هذا بالإضافة إلى أن الدراسة لم تكشف بالتحديد عن الكيفية التي يتسبب بها الباراسيتامول في الإصابة بالأزمة الشعبية، وغيرها من أنواع الحساسية، وما إذا كان هو المسؤول بشكل مباشر أم هناك سبباً آخر، مثل العدوى التي سببت الحمى ودفعت بالوالدين لاستخدام الباراسيتامول من الأساس. وإلى أن تتم الإجابة على هذه الأسئلة من خلال دراسات أكثر دقة، ينصح باتباع إرشادات منظمة الصحة العالمية في هذا الموضوع، والناصة على عدم الإفراط في استخدام الباراسيتامول، وقصر استخدامه على حالات الحمى الشديدة لدى الأطفال، أي عندما ترتفع حرارتهم فوق 38.5 درجة مئوية. وبوجه عام، وقبل اللجوء إلى العقاقير والأدوية، وخصوصاً في حالات الحمى المتوسطة، يمكن للوالدين استخدام كمادات مبللة بالماء البارد، مع نزع الملابس الزائدة، ومنح أطفالهم كميات كافية من السوائل، كإجراءات أولية لخفض حرارتهم. وإذا لم تنجح تلك الإجراءات، وفي ظل الشكوك التي أصبحت تحيط بالباراسيتمول، يمكن استخدام العقاقير المحتوية على مادة "الآيبي بروفين" (Ibuprofen)، المتوفرة أيضاً تحت العديد من الماركات التجارية. وهذه المادة أثبتت دراسة صدرت بداية هذا الشهر عن جامعتي "بريستول" و"وست لندن" ببريطانيا، أنها أكثر فعالية وسرعة في خفض حرارة الأطفال، إلى درجة أن القائمين على الدراسة أوصوا بأن تكون الاختيار الأول في علاج حمى الأطفال. أما بالنسبة للأسبرين، فيجب الامتناع تماماً عن استخدامه بالنسبة لمن هم دون سن التاسعة عشرة، وخصوصاً المصابين بعدوى فيروسية مثل الجديري المائي، نتيجة تسببه في مضاعفات عصبية خطيرة، وقاتلة أحياناً. د. أكمل عبدالحكيم