كنت أظن، وليس كل الظن إثماً، أن الهموم والتحديات التي تواجه الإسلام كثيرة وتحتاج لتضافر جهود وفكر الجميع، بل وتتطلب تصدي الشيوخ والعلماء بالفتاوى والنصح لإرشاد المسلمين إلى الأسلوب الأمثل لمواجهة هذه الهموم والتحديات، لكن خاب ظني واستمر إعصار الفتاوى التي تزيد من الهموم على ما وصلنا إليه من تفكير ومنطق وتأويل لا يتناسب موضوعياً ولا عقلانياً مع حقيقة الشرائع السماوية وواقع حياتنا اليومية وما يرتبط بها من علم وعمل وأنشطة. من المعروف أن أهم سمات شهر رمضان الكريم أن الفضائيات العربية بأسرها يجتاحها إعصار من البرامج الدينية المتنوعة التي تتيح الفرصة للدعاة الجدد وبعض الشيوخ والعلماء لينافسوا المشاهير من ممثلين وكومبارس ومخرجين من حيث الحضور التلفزيوني وما يرتبط به من حسن المظهر من ارتداء أحدث البذلات والقمصان وربطات العنق أو الملابس الدينية المنمقة والأنيقة التي تكاد تشم رائحة العطور الباريسية منها عبر الشاشة. لذلك لم يكن غريباً أن يحاول أحد الشيوخ لفت انتباه الفضائيات إلى وجوده على الساحة الإعلامية من خلال فتوى من الفتاوى المثيرة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا هدف من ورائها سوى تذكير الإعلام المرئي بوجود صاحب الفتوى، وقد درج على أن يكون اختيار الفتوى مخالفاً لكل التوقعات والعادات، وتحمل في طياتها "الإغراء الإعلامي"، على أن يتم تداولها في وسائل إعلام مقروءة أو مسموعة، لذلك سرعان ما يظهر صاحبها في إحدى الفضائيات ليُعلن ويقسم بأغلظ الإيمان أنه قد تم تحريفها وإخراجها من سياقها، ثم تبدأ جولة فضائية واسعة النطاق لاستضافته لاستيضاح الصورة، وهنا يكون شيخنا المفتي قد نجح في تحقيق هدفين في آن واحد يعودان بالنفع عليه؛ الأول الظهور لفترة ليست قصيرة في الفضائيات وما يترتب عليها من شهرة إعلامية وتذكير الإعلام بوجوده، والثاني إثارة جدل مستمر حول صحة فتواه من عدمها وما يترتب على ذلك من شهرة دينية يصعب وصفها. فمنذ أسبوع مضى خرج علينا معالي رئيس مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية الشيخ صالح بن محمد اللحيدان بفتوى صارخة أثارت كثيراً من الجدل، أجاز فيها قتل أصحاب القنوات الفضائية العربية واصفاً إياهم بـ"المفسدين في الأرض". وفي تصريحات لبرنامج "نور على الدرب" الذي تبثه إذاعة القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية، قال الشيخ اللحيدان ما نصه: "إن أصحاب الفضائيات يدعون إلى الفتن، ويبثون الدعوة للخلاعة والمجون والمضحكات، وإضاعة الوقت بغير فائدة ولا أجر، وإذا قدر على منعهم ولم يمتنعوا قد يحل قتلهم، لأن دعاة الفساد في الاعتقاد أو في العمل، إذا لم يُدفع شرهم بعقوبات دون القتل، جاز قتلهم قضاء". ودعا الشيخ أصحاب الفضائيات العربية إلى سرعة التوبة والكف عن نشر الفساد والإفساد عبر برامجهم "الخبيثة" التي تبثها قنواتهم الفضائية. وقد انتشرت الفتوى مثل النار في الهشيم في المملكة على الهواتف من خلال الرسائل النصية القصيرة بعنوان "فتوى للشيخ صالح اللحيدان تجيز قتل ملاك القنوات الفضائية". ولم يكد يمر يوم واحد على إذاعة الفتوى وانتشارها إلا وكان الشيخ اللحيدان ضيفاً على التليفزيون السعودي، يؤكد أن فتواه تم تحريفها وإخراجها من سياقها، وأراد صبغ الفتوى بصبغة قانونية، بأنه كان يقصد أن تُقام الدعوى من الجهات المختصة للادعاء على هذه الفضائيات، ويسمع القاضي ويصدر أحكامه، ثم تُرفع الأحكام للجهات المختصة وفق درجات التقاضي في المملكة، ويصدر الحكم بالاعتماد على منهاج الكتاب والسنة وما أجمع عليه علماء الأمة. وليست هذه أول فتوى يقول الشيخ اللحيدان إنه تم تحريف كلامه فيها، بل ولن تكون بالطبع الأخيرة، ففي بداية مايو من عام 2005 أفتى في تسجيل صوتي بجواز سفر السعوديين إلى العراق لقتل الأميركيين وحرَّض على الإرهاب، وبعد أن انتشر الأمر في بعض الصحف والقنوات الفضائية سارع بعد يومين وأصدر بياناً نُشر في الصحف السعودية يؤكد فيه أن التسجيل الصوتي له قد تعرض للتغيير، ونفى ما صدر عنه جملة وتفصيلاً. نحن نعترف بمدى إغراء الإعلام، وفي الوقت نفسه نقرُّ بحق أي شخص في أن ينافس المشاهير في سباق الظهور الفضائي، بل ونزيد بأننا نؤيد هذا الحق طالما كان في إطار تجنب الفتنة واللغو والبلبلة واستغلال الدين في الوصول إلى هذا الحق، فقيمة الفتوى ليست في مضمونها ومحتواها والمقصودين بها ومدى الجديد الذي أتت به، وإن كان هذا كله يصعب إنكار تأثيره، ولكن القيمة الحقيقية تكمن في قائلها ومكانته الدينية والاجتماعية والوظيفية، لذلك برز الاهتمام الشديد للإعلام ولكثير من المسلمين بفتوى الشيخ صالح اللحيدان الذي شارف على الثمانين من العمر، والتي لم ينكرها بل استفاض في شرحها محاولاً جعل الدين مطية لتطبيق القانون دون أدنى تفكير في أنه يستبيح دم مسلمين بناء على حكم نافذ منه على نواياهم وسريرتهم، ويقدم أرواحهم على طبق من فضة لكل متطرف؛ وتناسى ما حدث للإمام الشيخ الذهبي في ثمانينيات القرن الماضي عندما استباحت دمه جماعة مصرية متطرفة تطلق على نفسها "التكفير والهجرة" يتزعمها شخص يدعى شكري مصطفى، وذلك اعتماداً على فتوى مغرضة. ومع تقديرنا الكامل لشخص صاحب الفتوى الشيخ اللحيدان واحترامنا لمكانته القضائية والفضائية، وعدم شكنا في صدق نواياه، إلا أنه طالما صرّح بأي فتوى فإنها تصبح ملكاً لوسائل الإعلام وتتناقلها كيفما تريد ويتداولها العامة من المسلمين وغير المسلمين، ويصبح الأمر كما لو أنك ألقيت بحجر في بحيرة مياه راكدة فتشكل موجات تبدأ في الانتشار وتغطي مساحة كبيرة من السطح، ومن ثم تنتشر الفتوى ويتفهمها كلٌّ على هواه وبقدر ثقافته الدينية ومستوى تعليمه ووفق نواياه ومصالحه، ومن ثم يتصرف بناءً على ذلك كله وما سيترتب عليه من نتائج، وهنا نأخذ من كلام شيخنا الجليل ما ينطبق عليه، فقد قال: "إن أصحاب القنوات يكون عليهم وزر ما يدعون إليه، ومثل أوزار من تأثروا بدعوتهم ودعايتهم، فالخطر عليهم عظيم"، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على أصحاب الفتاوى، فعليهم أن يتحملوا وزر فتواهم، ومن تأثروا بها، فإذا أجاز قتل أصحاب القنوات العربية فما هو موقف أصحاب القنوات الأجنبية؟ هذا يعني تحريضا على الإرهاب، والمحرض يتساوى قضائياً مع المنفذ. أرجو يا سيدي أن يتسع صدرك للنقد وتأخذه على محمله الصحيح وقصده السليم، فالمعصوم عن الخطأ من البشر هو سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، لذلك ليس عيباً أن يراجع الإنسان نفسه ويروضها على التفكير والتدبير قبل أن يطلق الأحكام التي تؤدي إلى التهلكة، خاصة أن الأمة الإسلامية اليوم في حاجة شديدة لمراجعة النفس والعودة إلى صحيح الإسلام. إن القضية أعمق مما نتصور، وأكثر تدميراً مما نعتقد، وإذا أردنا أن نواجه التطرف والعنف والإرهاب، فعلينا أن نعالج الأمر من الداخل أولاً، وهو واجب أساسي لشيوخ ودعاة وعلماء الدين بالتريث أولاً عند إطلاق الفتاوى والتصدي الفوري الحاسم بالرد المقنع على أي فتوى متطرفة أو تحمل في طياتها ما يخالف حقيقة الإسلام وشرائعه، وقبل ذلك كله الأخذ في الاعتبار كيفية تأويل هذه الفتوى لدى عامة المسلمين. قال سيدنا عمر بن الخطاب: "اللهم أعنّي على أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم". فالإسلام الصحيح والمسلمون حقاً يستطيعون رد الأعداء، ولكن ماذا يفعل الإسلام وأصحابه عندما تأتي الطعنات من داخله، يوجهها له علماء وشيوخ باحثون عن الشهرة؟ والثمن يدفعه شباب الأمة الإسلامية المغرَّر بهم تحت ستار الدين.