لدى إطلاق الاتحاد السوفييتي قمر "سبوتنيك" الاصطناعي إلى الفضاء عام 1957، انطلق سباق علمي محموم بين قطبي الحرب الباردة، خاصةً من جانب الولايات المتحدة الأميركية في قيادة المعسكر الغربي، على أمل اللحاق بذلك السبق العلمي الفضائي السوفييتي. وسرعان ما أعلنت الخزانة الفيدرالية الأميركية عن تخصيص ميزانيات سخية لتمويل عدد من البرامج في مجال الدراسات والبحوث ذات الصلة بالهندسة الفضائية. وضمن فورة الحماس تلك، كانت قد علت الروح الوطنية بين الصناعات القومية المعنية بتكنولوجيا الفضاء، مؤدية إلى إنتاج جملة من التقنيات التجارية المفيدة على مسار السباق العلمي. وفي الوقت نفسه اتجهت اهتمامات الطلاب الجامعيين الأميركيين إلى دراسة تخصصات لم يلتفتوا إليها من قبل، مثل الهندسة الفضائية والفيزياء الفضائية إلى آخره. وكانت التكلفة باهظة بالطبع إلا أنها أتت أكلها في نهاية الأمر. تعد هذه المقدمة تمهيداً ضرورياً لعرض كتاب المؤلف توماس فريدمان الجديد: "عالم حار، مسطح ومزدحم"، لكونه بمثابة صرخة من أجل ما يسميه الثورة الأميركية الخضراء، بل هو صرخة من أجل لحظة "سبوتنيك" أخرى لاستنهاض الروح الوطنية القومية العامة من أجل إحداث ثورة خضراء، يرى أن أميركا والعالم كله بأشد حاجة إليها. ويوثق الكاتب ـالذي سبق أن نشرت له الكثير من المقالات عن الثورة الخضراء في هذه الصفحات- لتاريخ أمة تزداد اعتماداً على مصادر الطاقة الأحفورية، رغم المخاطر المحيطة باستدامة هذه المصادر واستمرار تدفقها في المستقبل المنظور. وبسبب العائدات المالية الضخمة التي تضخها مبيعات النفط لعدة دول مصدرة للنفط، وبخاصة إيران وروسيا وفنزويلا، فقد استقوت هذه الدول وأصبحت قادرة على إثارة الكثير من القلاقل والاضطرابات السياسية والأمنية التي تهدد المصالح الأميركية، حسب رأي الكاتب. والأشد إثارة للقلق كما يقول، ليس الجانب الّأمني المرتبط بالتغيرات التي طرأت على عالم ما بعد هجمات 11 سبتمبر - رغم خطورته- وإنما انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات السامة الأخرى المسببة للاحتباس الحراري والارتفاع العام في درجات حرارة الأرض، وهي جميعها غازات مصدرها الطاقة الأحفورية، مثل النفط والفحم الحجري والغاز الطبيعي، أي المصادر التي يعتمد عليها الاقتصاد الأميركي بدرجة كبيرة. وطالما استمر تراكم هذه الانبعاثات في الغلاف الجوي بفعل الإنسان، فإن ذلك لا يعني شيئاً آخر سوى استمرار تغيير الإنسان للمناخ، دون أن يكترث كثيراً للخطر الذي يسببه سلوكه اللامبالي للحياة كلها على كوكب الأرض. والمخزي بالنسبة لأميركا على وجه الخصوص في درء هذا الخطر العالمي، أن سياساتها في مجال الطاقة لا تزال أبعد ما تكون عن الخضرة. يجدر بالذكر أن مادة الكتاب اعتمدت في الأساس على اطلاع المؤلف على الوثائق الرسمية ذات الصلة بسياسات الطاقة. وقد خرج الكاتب مما اطلع عليه باستنتاج رئيسي موجزه بؤس سياسات بلاده في مجال الطاقة المستدامة الخضراء -بل معارضتها وخروجها من المعاهدات والبروتوكولات الدولية المعنية بصيانة المناخ العالمي، مثل بروتوكول كيوتو للتغير المناخي- وهذا بؤس لا يتلاءم وحقيقة أن أميركا تعد أكبر دولة مستهلكة للوقود، وأن مصانعها ومكاتبها وبيوتها وسياراتها هي الأكثر "شفطاً" للنفط وغيره من منتجات الطاقة الأحفورية المهددة للحياة في كوكبنا. وضمن ما استنتجه الكاتب في سياق دراسته هذه، أن الفرص الاقتصادية التي يوفرها نمط الاقتصاد القومي المدفوع بقوة التكنولوجيا، تزيد اتجاهات التدهور البيئي هذه سوءاً. فبينما بدا النمو الاقتصادي الذي حققته "النمور" الآسيوية، وخاصة الصين، مذهلاً وأقرب إلى المعجزة الاقتصادية، فإنه أسفر عن دمار بيئي هائل في المقابل. والمعلوم أن التقدم الصناعي والتكنولوجي الذي حققته الدول الآسيوية يعتمد بدرجة كبيرة على الفحم الحجري، والذي تقع عليه المسؤولية الأكبر في تزايد انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، مقارنة بمصادر الطاقة الأحفورية الأخرى. وتشير أفضل المعلومات التي تحصل عليها الكاتب في هذا الخصوص إلى أن النمو الاقتصادي القائم على طاقة الفحم الحجري، الذي حققته الصين خلال السنوات الست الماضية وحدها، قد أسفر عن توسيع منتجاتها الفحمية وتسريع هذه المنتجات بما يعادل إجمالي إنتاج الولايات المتحدة من طاقة الفحم. وإذا ما أضفنا ذلك كله إلى حقيقة تسارع التحول العالمي من الحياة الريفية إلى نمط حياة المدن والمراكز الحضرية، فمن الطبيعي أن تكون النتيجة النهائية هي: عالم حار... مسطح ومزدحم، وهو ما رسم عنه المؤلف صورة عامة مقلقة ومنذرة بالخطر في هذا الكتاب. ويلاحظ فريدمان أنه قد كثر الحديث المجاني الرخيص عن الثورة الخضراء. غير أن إحداث الثورة الخضراء التي أصبح لا مناص منها، لا يمكن له أن يتحقق بمجرد الطنين المستمر عن الخضرة والثورة الخضراء. والفارق بين الاثنين هو أن إنجاز الثورة يتطلب فرض الاتجهاهات والسياسات الثورية الجديدة في مجال الطاقة، وليس مجرد الطنين وحده عن الخضرة. والسؤال المباشر الذي يثيره الكاتب في هذا الصدد هو ما إذا كان في وسع الولايات المتحدة أن تصبح دولة في عزم الصين وقوة إرادتها في فرض الاتجاهات الجديدة في مجال الطاقة، بصرف النظر عن المصالح والتكتلات الخاصة التي تعترض هذه السياسات داخلياً؟ أم أن الأرجح أن تركن أميركا لهذه المعارضة الداخلية المعادية للخضرة، فتعجز عن إحداث أي تغيير في سياساتها الراهنة؟ عبدالجبار عبدالله ـــــــــــــــــــــــــــــــــ الكتاب: عالم حار، مسطح ومزدحم المؤلف: توماس فريدمان الناشر: دار "فارار، شتراوس آند جيرو" للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2008