تظهر الولايات المتحدة الأميركية على المسرح العالمي الآن باعتبارها أقوى دولة عسكرية في العالم. كما أنها -رغم الصعوبات الاقتصادية الراهنة- تمتلك اقتصاداً قوياً، وتحوز المبادرة في مجالات القوة المعرفية والتفوق التكنولوجي. ومنذ أحداث سبتمبر 2001، صاغت الولايات المتحدة استراتيجية جديدة، من عناصر عدة، لخصتها مؤسسة "راند" (العقل الاستراتيجي الأميركي) وكتبها مجموعة باحثين استراتيجيين أميركيين، قوامها توصيات لوزارة الدفاع الأميركية بالإبقاء على أحادية القطب الأميركي إلى الأبد، ومنع أي منافس محتمل حتى ولو باستخدام القوة المسلحة. وعليه، فإن الولايات المتحدة أولاً: تنظر إلى نفسها باعتبارها القطب الأوحد في العالم، والذي من حقه عقاب أي منافس. أما ثانيا: أن "سياسة الردع" في مرحلة الحرب الباردة وصلت إلى منتهاها، وأنه لذلك يجب تطبيق سياسة أخرى توجه الضربات الإجهاضية لأي دولة يشتم من سلوكها تهديد الأمن القومي الأميركي! وثالثاً: أن إهدار مبدأ سيادة الدول، على أساس أن المجموعات الإرهابية التي تهدد الأمن القومي الأميركي (ولا تحترم سيادة هذه الدول) تنبغي محاربتها في أي مكان ولو اقتضى الأمر إهدار سيادة الدول ذات الصلة! ورابعاً: أنه لا قيمة للمعاهدات والاتفاقات الدولية. وآخرها: أن حق الولايات المتحدة بالرد على التهديدات الإرهابية دون قيود أو حدود، حق حصري مقدم على ما سواه. لكن إلى متى تستطيع الولايات المتحدة الاستمرار في ذلك؟ يقول بعض الباحثين إن هذه الأحادية القطبية ستكون مؤقتة وقصيرة. ويرى آخرون أن الولايات المتحدة تمتلك من القوة ما يمكّنها من السيطرة على العالم لعدة عقود مقبلة. أما الفريق الثالث فيرى أن عالم القوة الخارقة الواحدة لن يدوم؛ فروسيا ميدفيديف/ بوتين لملمت نفسها وها هي تعود إلى الساحة الدولية من جديد، إضافة إلى أن الصين (أكثر من مليار نسمة) ستكون خلال العقدين القادمين صاحبة اقتصاد قوي ومتطور وتتمتع بنظام سياسي وسلطة مستقرة، وبالتالي ستسعى للاهتمام بمصالحها الاقليمية والعالمية. حقاً، تضع الولايات المتحدة العالم كله أمام اختيار صعب: إما نظام عالمي جديد تنفرد بالسيطرة عليه، وإما التسبب بفوضى عالمية! وهذه الإشكالية هي موضوع كتاب "الاختبار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم"، للمفكر الاستراتيجي الأميركي زبغينيو بريجنسكي، والذي يتناول فيه مستقبل التفوق الأميركي، معتبراً أن "الزوال المفاجئ للهيمنة الأميركية، يعجل، دون شك، بحدوث فوضى عالمية شاملة تتخللها ثورات تتسم بالدمار الشامل". لذلك، ولتفادي الكارثة، يرى بريجنسكي "أن التقويض التدريجي للقوة يمكن أن يؤدي إلى بروز مجتمع عالمي ذي مصالح مشتركة"، مؤكداً أن "التحدي الرئيسي للقوة الأميركية لا يمكن أن ينبع إلا من داخل أميركا بسبب سوء استخدام أميركا لقوتها". وبما أن "الأمن القومي الأميركي يمتزج بشكل متزايد بقضايا الرخاء العالمي"، فإن بريجنسكي يدعو القيادة السياسية الأميركية "إلى استراتيجية بعيدة المدى تعبئ الدعم العالمي ولا تنفره". في عام 2004، خرق "بوش الابن" اتفاق "بوش الأب" مع الرئيس الروسي بوريس يلتسين حين تعهد "الأب" بأن توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) سيتوقف عند حدود دول أوروبا الشرقية التي ألحقها الجيش السوفييتي بالكتلة السوفييتية بعد الحرب العالمية الثانية (هنغاريا وتشيكيا وبولندا). ولاحقاً، انضمت للحلف كل من بلغاريا ورومانيا ولاتفيا وليتوانيا وأستونيا، ثم تكاثرت الوعود الأميركية لجورجيا وأوكرانيا بالانضمام للحلف. ولادراك الولايات الخطر من استعادة روسيا لقوتها، ابتدعت مشروع نشر الصواريخ في الدول المحيطة بها، فبات الأمر (مع الانضمامات السابقة للأطلسي) وكأنه حصار استراتيجي لروسيا الحديثة. وفي هذا السياق، ظنت الولايات المتحدة أن خطتها في التسلل إلى الدول المحيطة بروسيا (والتي كانت تدور من قبل في فلك الاتحاد السوفييتي) نجحت تماماً! غير أن أحداث جورجيا الأخيرة أثبتت فشل تلك الخطة. فالرد الروسي أعلن صراحة عن عودة الاتحاد الروسي إلى ممارسة سياسة الردع العسكري العنيف التي كان قد تخلى عنها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. لحظتئذ، تبين العجز الأميركي الذي اكتفى بتصريحات وتحذيرات سياسية قوية لروسيا، كاشفاً عن حدود القوة الأميركية، وعن بروز جديد للقوة الروسية. فالتدخل الروسي العسكري الشامل في جورجيا شكل علامةً على أن استفراد الولايات المتحدة بالعالم انتهى أو هو يقترب من ذلك، وأننا بصدد عملية تدريجية معقدة من شأنها إعادة التوازن الى النظام الدولي، ليس بالضرورة على شكل "الحرب الباردة" وإنما كنوع من "تحديث التوازن" في النظام الدولي المبشر بالانحسار التدريجي للهيمنة الأميركية المطلقة بعدما عادت روسيا إلى صدارة المشهد الدولي من جديد. طبعاً، لا يعني ذلك أن تصمت واشنطن على ما حققته روسيا في منطقة القوقاز، بل ستعمل فوراً على إعادة تنظيم قواها وحلفائها لمنع روسيا من توسيع مكاسبها وخصوصاً في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط التي تستغل روسيا ورطة واشنطن فيها بعد فشل أهدافها في أفغانستان والعراق. لذلك يرى بعض المسؤولين في البنتاغون سابقاً أن أصدقاء روسيا في منطقة الشرق الأوسط سيشكلون، من خلال نفوذهم واستقلالية قرارهم، أهم عقبة أمام الولايات المتحدة. إن ما أغضب الولايات المتحدة وأجبر "الاتحاد الأوروبي" على اتخاذ مواقف، في حقيقتها، مغايرة للموقف الأميركي، هو أن سيناريو الحرب كان كلاسيكياً بامتياز. فروسيا، دفاعاً عن مصالحها القومية، قامت بعمليتها العسكرية في جورجيا. ورغم أن نشوب مواجهة عسكرية بين روسيا والغرب هو احتمال مستبعد جداً، فإن تزايد عدد القطع الحربية (الأميركية على مقربة من الأسطول الروسي) المنتشرة في البحر الأسود يُبقي الاحتمال قائماً، وبخاصة لصغر حجم منطقة الاحتشاد. وهي "مواجهة" قد تبدأ حتى دون قرار سياسي! فأي سوء تقدير من أي طرف لتحركات الطرف الآخر قد يسبب الطلقة الأولى لحرب محلية محدودة (مع تعذر إقدام الأطراف على شن حرب دمار شامل). ولعل لهجة التصريحات السياسية الأوروبية التي انخفضت حدتها ضد روسيا، تدل على أن الدول الأوروبية تدرك خطورة الموقف وتحاول تهدئة الأوضاع لتفادي المواجهة المحلية (ناهيك عن تلك المدمرة عالمياً) وحصرَ البحث عن حل للأزمة في الحوار السياسي، بعيداً عن الآلة العسكرية، لكن مع الاحتفاظ بها كأداة ضغط خلال المحادثات مع روسيا. من هنا جاء الاتفاق بين الرئيسين الروسي ميدفيديف والفرنسي ساركوزي على سحب القوات الروسية من كامل الأراضي الجورجية خلال شهر‏، باستثناء إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بموجب ضمانات أوروبية لموسكو‏، ونشر 200 عنصر من الاتحاد الأوروبي كمراقبين في جورجيا، على أن تبدأ محادثات أمنية دولية حول الإقليمين في الخامس عشر من أكتوبر المقبل في جنيف. فهل يصمد هذا الاتفاق؟