الصداع أنواع، ومن أنواعه الصداع النصفي. وهو مرض واسع الانتشار، حيث تشير الإحصائيات إلى وجود أكثر من 23 مليون شخص في الولايات المتحدة فقط، مصابين بالصداع النصفي، ثلاثة أرباعهم من النساء. ولا يختلف الحال كثيراً في بريطانيا، والتي يعاني 10% من سكانها من الصداع النصفي، غالبيتهم أيضاً من النساء. هذا المرض، بخلاف الوطأة النفسية والجسدية الشديدة لنوباته المتكررة، أظهرت العديد من الدراسات في السنوات الأخيرة وجود علاقة وثيقة بينه وبين احتمالات الإصابة بالسكتة الدماغية، أو جلطة المخ، خصوصاً النوع الكلاسيكي من المرض. هذه العلاقة تصل لدرجة زيادة احتمالات الإصابة بالسكتة الدماغية بمقدار الضعفين أو الثلاثة أضعاف بين مرضى الصداع النصفي، خصوصاً بين صغار السن، وبين النساء اللواتي يستعملن حبوب منع الحمل. وربما لا يقتصر هذا التأثير على شرايين المخ فقط، بل يمتد أيضاً إلى شرايين القلب. حيث لوحظ من خلال الدراسة المعروفة بمبادرة صحة النساء (Women’s Health Initiative)، ارتفاع معدلات الوفيات بسبب أمراض القلب والشرايين بين المصابات بالصداع النصفي، مقارنة بقريناتهن، وإن كانت هذه الملاحظة تحتاج لمزيد من الدراسة والبحث. ولطالما فسر الأطباء هذه الظاهرة على أنها ربما تكون نتيجة ازدياد تصلب جدران الشرايين وانسدادها لدى مرضى الصداع النصفي، وهي التغيرات التي يعرف عنها ارتباطها الوثيق بالإصابة بالسكتة الدماغية. هذه النظرية والتي تعتبر الأكثر شيوعاً في تفسير العلاقة بين الصداع النصفي والسكتة الدماغية، دحضتها هذا الأسبوع دراسة صدرت عن جامعة في النمسا (Innsbruck Medical University)، ونشرت في العدد الأخير من دورية طبية متخصصة في العلوم العصبية (journal Neurology). فمن خلال استخدام الموجات الصوتية، قام العلماء بفحص شرايين 574 شخصا فوق سن الخامسة والخمسين، منهم 111 مصابون بالصداع النصفي، لتحديد مدى تصلب جدران شرايينهم وانسدادها. وكانت المفاجأة أن حالة جدران ومرونة شرايين المرضى المصابين بالصداع النصفي، لا تختلف كثيراً عن الأصحاء. وهو ما يعني أن السبب خلف إصابة مرضى الصداع النصفي بالسكتة الدماغية، لا علاقة له بتصلب أو انسداد شرايين المخ لديهم. لكن ما هو السبب إذن؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، لابد أن نسترجع بعض المعلومات الأساسية عن هذا المرض المزمن. بداية، لا يدري أحد بالتحديد السبب خلف الإصابة بالصداع النصفي، وإن كانت بعض الأبحاث تشير إلى حدوث اضطرابات كيميائية في الجسم، بما في ذلك داخل الأوردة والشرايين والخلايا العصبية في المخ. ومن المعروف أن هناك بعض العوامل أو المثيرات التي تتسبب في وقوع هذه التغيرات ومن ثم الإصابة بنوبات الصداع، مثل التوتر، والإرهاق، وقلة النوم، أو كثرة النوم، وبعض الأطعمة مثل الأجبان والكحوليات، والمشاعر الشديدة، أو بعض التغيرات الهرمونية مثل استخدام حبوب منع الحمل أو قبل وخلال الدورة الشهرية. ويقسم الصداع النصفي على حسب الأعراض والعلامات إلى نوعين، النوع الشائع (Common Migraine)، والنوع الكلاسيكي (Classical Migraine). في النوع الأول تتميز النوبات بصداع حاد، نابض أو طارق، في أحد نصفي الدماغ، بالترافق مع فقدان الشهية، والغثيان، والقيء، وكره الطعام، والإمساك أو الإسهال. وكثيراً ما يشعر المصاب بحساسية شديدة للروائح، أو الضوء، أو الضوضاء، مما يدفعه أثناء نوباته للجوء للأماكن الهادئة المعتمة. ويصيب هذا النوع 90% من مرضى الصداع النصفي. أما في النوع الثاني، أو الكلاسيكي، فيسبق وقوع النوبة حدوث اضطرابات بصرية، مثل رؤية أضواء خاطفة وسريعة، أو فقدان البصر في بقع محددة من الرؤية (Blind Spots). وتقع نوبات الصداع في كلا النوعين بمعدل مرة واحدة شهرياً تقريبًا، وتستمر النوبة لمدة 22 ساعة، يشعر المريض بعدها لمدة يوم أو يومين بالإجهاد والتعب. ورغم أن الصداع النصفي في غالبية الحالات، لا يشكل خطراً صحياً، إلا أن تواتر الدراسات عن علاقته بالسكتة الدماغية، قد بدأ في تغيير هذه النظرة. وفي ظل فشل العلماء النمساويين من خلال الدراسة السابقة في العثور على تصلب أو انسداد في شرايين مرضى الصداع النصفي، وملاحظتهم أن المرضى الذين خضعوا للدراسة أظهر تاريخهم الطبي تعرضهم لنسبة أعلى من جلطات الأوردة، اتجه تفكيرهم إلى أن السكتة الدماغية ربما يكون سببها جلطات دموية وقعت في مناطق بعيدة من الجسم، مثل الساقين، وانتقلت إلى أوردة المخ مسببة انسدادها. فالمعروف أن النوع الكلاسيكي من الصداع النصفي، يرتبط باضطراب وراثي، يزيد من قابلية الدم للتجلط (V Leiden Mutation)، وهو ما قد يفسر وقوع الجلطات في أوردة المرضى. هذه العلاقة إذا ما ثبتت بشكل قاطع، يمكن أن تفتح باباً جديداً على صعيد مساعدة مرضى الصداع النصفي في تجنب الوقوع ضحية للسكتة الدماغية، من خلال استخدام العقاقير التي تزيد من سيولة الدم مثلاً. وهو ما سيعتبر إضافة جديدة لأساليب العلاج التي يستخدمها الأطباء حالياً لمساعدة هؤلاء المرضى، والتي تشمل العقاقير والأدوية، والمضافات الغذائية والعشبية، وأساليب الطب البديل، والعلاج السلوكي، وربما حتى أحياناً الحقن بالبوتكس أو التدخل الجراحي. د. أكمل عبدالحكيم