من هو الفقير في أميركا؟ رغم أن هذا السؤال قد يبدو بسيطاً، فإنه في الحقيقة ليس كذلك. والوسيلة العتيقة التي تستخدمها الإدارة الأميركية في قياس الفقر، تعكس ما ينطوي عليه هذا السؤال من صعوبة. فقد وجدت ولاية "نيويورك" مثلاً أن الأرقام التي يتم التوصل إليها عبر تلك الوسيلة عديمة الفائدة إلى أقصى حد، مما دفعها لاستنباط وسيلتها الخاصة في قياس الفقر. ولا يقتصر الأمر على "نيويورك" بل يشمل ولايات أخرى، كما يتوقع أن تحتل هذه المسألة أولوية متقدمة في مؤتمر العُمَد في لوس أنجلوس يومي 23 و24 سبتمبر الحالي. كل ذلك جيد، لكنه لا يكفي... فالمطلوب هو على الأقل إصلاح نظام قياس الفقر برمته. وثمة خبر طيب في هذا السياق، مفاده أن هناك مسودة قانون بهذا الخصوص تجري صياغتها حالياً في مجلسي النواب والشيوخ، وهو أمر تأخر كثيراً عن موعده. قد يسأل سائل: وهل امتلاكنا وسيلةً جيدة لقياس الفقر، مهم إلى هذه الدرجة؟ للإجابة على هذا السؤال يجدر بنا أن نعرف أن الولايات المتحدة، وعلى مدار العقود الأربعة الماضية، عملت على توسيع البرامج الخاصة بدعم العائلات المنخفضة الدخل، بما في ذلك تقديم كوبونات غذائية، وإيصالات سكن، ورعاية صحية، وإعفاءات ضريبية. لكن معدل الفقر، لا يأخذ أيّاً من تلك العناصر في الحسبان... لماذا؟ لأنها لا علاقة لها بالضرائب أو بالدخل غير النقدي. وفي الوقت نفسه نجد أن النفقات الطبية الأميركية زادت، وأن هناك ارتفاعاً في عدد الأمهات العاملات اللائي ينفقن على أسرهن، ويدفعن نفقات تربية وإعالة الأطفال. لكن وسيلة قياس الفقر المستخدمة حالياً لا تأخذ هذه العناصر في حسبانها أيضاً. وما النتيجة التي تترتب على ذلك؟ النتيجة هي باختصار أنه ستكون لدينا إحصائيات فقر يستطيع من توصلوا إليها أن يدّعوا، وبكل سهولة، وبطريقة تدعو السلطات الفيدرالية للشعور بالإحباط، أن الإنفاق العام على الفقراء ليس له سوى تأثير ضئيل. والحقيقة أن معظم البرامج المخصصة لمساعدة المحتاجين لن تؤدي إلى زحزحة معدل الفقر في الولايات المتحدة إذا ما ظللنا نحدده بناء على الطريقة التي نقيسه بها الآن. ومقياس الفقر الحالي تم استنباطه عام 1964، بواسطة خبيرة إدارة الأمن الاجتماعي "مولي أورشانسكي". فعندما عادت "أورشانسكي" إلى البيانات المستخرجة عام 1955، وهي أفضل المعلومات التي كانت متاحة حينئذ، تبين لها أن الأسرة الأميركية تنفق ثلث دخلها في المتوسط على الطعام. كان ذلك يعني أن خط الفقر الرسمي يبلغ ثلاثة أضعاف متوسط تلك القيمة، كما كان يعني أن هذا الخط سوف يتحرك للأعلى عندما تتم إعادة تعديله ليتوافق مع التضخم كل عام. وفي هذا السياق، يشار إلى أن جميع العناصر التي يتم أخذها في الحسبان عند قياس حد الفقر، قد تغيرت ولم تبق على حالها خلال العقود الأربعة الماضية. فأسعار الطعام مثلاً انخفضت حيث لم تعد تشكل اليوم أكثر من سُبع ميزانية الأسرة في المتوسط، بينما أصبح معظم الناس يدفعون مبالغ أكبر مقابل الحصول على السكن والطاقة. في عام 1995، انضممتُ لمجلس من الأساتذة في "الأكاديمية الوطنية للعلوم" كان مختصاً بتقديم الإرشاد للحكومة الفيدرالية بشأن المسائل العلمية. وفي ذلك الوقت أوصينا باتباع طريقة أكثر فاعلية لتحديد ما يعرف بـ"عتبة الفقر" تقوم على حساب النفقات اللازمة للحصول على حزمة من الاحتياجات الأساسية، بما في ذلك الطعام، والمأوى، والملبس، والخدمات الأساسية. ولم تكن تلك "العتبة" ثابتة بل كانت تختلف وفقاً للمنطقة الجغرافية، ووفقاً للفوارق في تكلفة السكن. كان ذلك يعني أن العائلات التي تعيش في"لوس أنجلوس" مثلًا لديها خط فقر يختلف عن خط الفقر الخاص بعائلات المناطق الريفية في ولاية "وايمونج". وعندما حددت ولاية نيويورك عتبة جديدة باستخدام هذه الوسيلة، وجد المسؤولون فيها أن رقم عتبة الفقر يصل 21,818 ألف دولار للعائلة المكونة من أربعة أفراد. وهو رقم لا يختلف كثيراً عن الرقم الأميركي الرسمي والذي كان يبلغ 20,444 ألف دولار. لكن عندما تم تعديل هذا الرقم ليتوافق مع نفقات السكن المرتفعة في نيويورك، فإنه وصل 26,138 ألف دولار. وهنا يثار السؤال: لماذا لم يتم إحداث تلك التغييرات منذ سنوات طويلة؟ يرجع سبب ذلك إلى تدخل السياسة في الشؤون التقنية بطريقة تضرها أكثر مما تفيدها. ففي ستينات القرن الماضي، تم وضع قضية مقياس الفقر تحت إشراف البيت الأبيض. وهو ما كان يتناقض مع التقاليد الأميركية الرسمية التي كانت تضع جميع الإحصائيات الوطنية تحت إشراف وكالات متخصصة تتمتع بتاريخ طويل في اتخاذ القرارات غير السياسية. هذا هو السبب الذي يجعلني أقول إن الكونجرس اليوم بحاجة إلى تمرير تشريع يتم بموجبه تكليف إحدى الوكالات الإحصائية المتخصصة للتوصل إلى مقياس فقر فيدرالي جديد على ضوء توصيات الأكاديمية الوطنية للعلوم. فهذا تحديداً هو الشيء الذي يتوجب علينا عمله. فإذا ما كنا نريد التحاور حول السياسات الجديدة الخاصة بمساعدة الفقراء، فإننا نحتاج في المقام الأول إلى مقياس فقر موثوق به يبين لنا السبب الذي يجعلنا نصف أناساً معينين بأنهم فقراء وأناساً غيرهم بأنهم ليسوا كذلك. ربيكا بلانك أستاذة الاقتصاد في معهد بروكينجز -واشنطن ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"