من السهل الخضوع لآفة النسيان، وإغفال تلك الحالة من اليأس والتشاؤم التي خيّمت على واشنطن فيما يتعلق بالعراق قبل أقل من سنتين. والأمر لا يقتصر فقط على "هاري ريد" زعيم الأغلبية "الديمقراطية" بمجلس الشيوخ، الذي قال وقتها "إننا خسرنا هذه الحرب"، بل امتد إلى العديد من أركان إدارة بوش نفسها التي خلصت إلى أن الخيار الوحيد المتبقي أمام أميركا هو إدارة الخسارة وتدبير الوضع المتردي. وفي السياق نفسه، أخبر "مايكل هايدن" -رئيس وكالة الاستخبارات المركزية- "مجموعة دراسة العراق" في نوفمبر 2006 بأنه "غير قادر على الإشارة إلى علامة فارقة أو نقطة معينة نستطيع من خلالها تغيير الوضع في العراق إلى الأفضل". وقد ننسى أيضاً، ونحن بصدد مناقشة موضوع العراق، مشاعر الشك والريبة التي أحاطت بتصريحات الرئيس بوش بشأن استراتيجيته الجديدة في يناير 2007، وحينها أيضاً لم يكن "الديمقراطيون" فقط من ارتاب في خطة إرسال قوات أميركية إضافية إلى العراق كما عبر عن ذلك السيناتور باراك أوباما قائلاً: "أعتقد أن خطة زيادة القوات ستكون لها آثار عكسية"، بل امتد التشكيك إلى "الجمهوريين" أنفسهم وتحديداً السيناتور "تشاك هاجل"، الذي وصف خطة بوش بأنها "الخطأ الأكثر خطورة في السياسة الخارجية الأميركية منذ فيتنام". ولم تتأخر وسائل الإعلام أيضاً في إبداء بعض تحفظها إزاء استراتيجية بوش الجديدة، حيث اعتبرتها هيئة تحرير "واشنطن بوست" خطيرة للغاية، ناهيك -كما أوضح ذلك كتاب "بوب ودوورد" الأخير- عن الجنرالات في هيئة الأركان الذين وقفوا ضد خطة إرسال قوات إضافية إلى العراق. لكن مهما جاء تقييم المؤرخين قاسياً لمجمل سياسات بوش في العراق التي ترجع إلى بداية الغزو والفشل في إرسال قوات كافية منذ البداية والتأخر في الاعتراف بالأخطاء، إلا أن إصراره قبل عشرين شهراً على تطبيق استراتيجية جديدة في العراق، لاشك أنه سينظر إليها كخطوة تنطوي على شجاعة كبيرة. فبرغم التوجه الذي كان سائداً وقتها لدى الرأي العام وفي أوساط الكونجرس، فضلاً عن توصيات مجموعة دراسة العراق وبعض رموز الإدارة الذي يدفع نحو رأي توافقي يعترف بالفشل في بلاد الرافدين، ويقتصر على إدارة الخسارة، أصر بوش على سياسته التي تعيد الأمل مجدداً في تحقيق النجاح. لكن كتاب "ودوورد" الرابع حول خفايا اتخاذ القرار السياسي داخل إدارة بوش، أكد أنه ما كان للرئيس اتخاذ القرار الصعب بمراجعة سياسته الفاشلة في العراق وتصحيح أخطائها دون مستشاره في الأمن القومي "ستيفن هادلي". فبطبيعته الهادئة وأسلوبه المحايد لم يسعَ "هادلي" للبحث عن الأضواء، أو الشهرة كما فعل ذلك هنري كيسنجر، أو زبيجنيو بريجينسكي، ولم يسعَ أيضاً إلى الترويج لعلاقته المتينة برئيسه على شاكلة برينت سكوكروفت مع الرئيس بوش الأب، أو كوندليزا رايس مع بوش الابن. وفي الوقت الذي كانت فيه أغلب الأصوات في الإدارة تتمسك باستراتيجية تسليم المسؤولية بسرعة إلى جيش عراقي غير مستعد بعدُ، كان "هادلي" يدفع في اتجاه التغيير وتبني استراتيجية جديدة تنهض على مكافحة التمرد من خلال توفير قدر كاف من الأمن، وخاصة في بغداد لمنح فرصة نجاح للمصالحة السياسية. والحقيقة أن مستشار الأمن القومي لم يكن وحده يدعو إلى تغيير الاستراتيجية، بل سانده كل من السيناتور جون ماكين وجو ليبرمان، فضلاً عن نائبة مستشار الأمن القومي "ميجان أوسوليفان". وأخيراً سيتطلب الأمر قيادة جديدة تحت إمرة الجنرال ديفيد بيترايوس والسفير "رايان كروكر" في العراق لترجمة الفرصة الجديدة إلى استراتيجية قابلة للتطبيق على أرض الواقع. لكن الفضل الأول يعود إلى "ستيفن هادلي" الذي قاوم معارضة وزارتيْ الدفاع والخارجية، وخاض صراعاً ضد الكونجرس "الديمقراطي"، فضلاً عن ارتياب الرأي العام حول البقاء أكثر في العراق، مدركاً في الوقت نفسه محدودية تدخل الرئيس وسلطاته التنفيذية. فلو أن بوش أصدر مرسوماً واضحاً يعارض فيه إرادة البنتاجون، لأدى ذلك إلى إضعاف معنويات الجيش، ولأدخل البلاد في مرحلة من الارتباك، الأمر الذي كان سيُفشل الخطة الجديدة. لذا قرر "هادلي" العمل بصمت داخل المؤسسات والانخراط في العمل الشاق والطويل للفرق الخاصة وجماعات الدرس للتوصل إلى ما يبدو على الأقل أنه رأي توافقي، وبدلاً من أن يبحث عن المجد، حاول أن يبقى محايداً وألا يدافع عن فكرة دون الأخرى، لكنه حرص على إبقاء الفكرة الأهم فوق الطاولة وعدم إقصائها. وحسب كتاب "ودوورد" صرح هادلي لفريق العمل قائلاً "عليكم أن تعطوا الرئيس فرصة التفكير في إرسال قوات إضافية إلى العراق، ومهما كانت آراؤكم الخاصة، مع أو ضد، عليكم أن تقدموا للرئيس إمكانية زيادة القوات كخيار ضمن خيارات أخرى". ويبدو أن هدف "هادلي" منذ البداية كان هو إصلاح ما يمكن إصلاحه من أعطاب السياسة الأميركية في العراق لتحييد القضية كموضوع للشد والجذب في الانتخابات الرئاسية والسماح للرئيس المقبل بالفوز دون التسرع إلى قطع وعود طنانة ودخول البيت الأبيض بوجود أفق للنجاح، على الأقل. ولأن النجاح كان حليف "هادلي"، فقد تشكلت فكرة جديدة في واشنطن مفادها أن مهمة أميركا في العراق تقارب الانتهاء، وأن الوقت قد حان للتركيز على التحديات القادمة من أفغانستان. وإذا تبيّن، كما يبدو أنه سيقع، أن القوات الأميركية ستبقى في العراق لفترة أطول فلا أقل من أن نأمل ظهور مستشار جديد للأمن القومي يتميز بالقوة الكافية لمقاومة السائد من الأفكار ولقيادة البلاد في الاتجاه الصحيح. فريد حياة كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"