ها هي ذكرى الحادي عشر من سبتمبر السابعة تمر، ولكن ليس كسابقاتها مع أن أحداثها غيرت الكثير من وجه العالم حيث وضعت واشنطن، وبعد جدل استراتيجي عالمي، أمام تفضيل استراتيجية زيادة التدخلات ومواجهة الأعداء خارجيا والاحتفاظ بدور عالمي ريادي في حفظ الأمن والاستقرار العالميين. فلم تفرض هذه الذكرى حضورها في وسائل الإعلام المتعددة بشكل كبير رغم خروج خطاب لـ"القاعدة" قبيل الذكرى بدا فيه أن هناك تعقيدات إقليمية ودولية إلى جانب الميليشيات العقائدية، وكأن "القاعدة" من خلال خطابها تتزاحم أقدامها مع معمعة أقدام قوى دولية وغير دولية في ساحة الشرق الأوسط، ولم تكن الغارات الأميركية المتزامنة مع هذه الذكرى على مناطق محددة يتجمع بها القاعدة في باكستان سوى تأكيد بأن هناك صراعاً مع أصولية "القاعدة". فهذه الغارة ووقفات التأبين لضحايا 11 سبتمبر الأميركيين لم تستطع تخفيف وطأة ما خلفته الحرب الروسية الجورجية من أحداث عالمية وإقليمية ما زالت ترتسم. وعلى خلاف أهمية الحدث أتت الذكرى أخف وطأة، ويعود ذلك إلى أن أحداث الحرب الروسية الجورجية مازالت تشد وتجذب أطرافاً في صراع يتسع مكنونه بين موسكو وواشنطن من مشروع الدرع الصاروخية التي تصنفهُ موسكو بأنه يستهدف أمن روسيا وأيضاً تهديد الأمن الروسي بالزحف الديمقراطي الغربي الآخذ في الانتشار في دول الاتحاد السوفييتي السابق مع توسع حلف "الناتو" إلى جانب صور أخرى من الصراع في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية إلى ما بدا من خلال كوريا الشمالية من محاولة التملص من تعهداتها لواشنطن أو ربما المطالبة بالمزيد في المقايضة ببرنامجها النووي. وفي الشرق الأوسط تأتي طهران ودمشق كورقتين تتحركان لرغبة موسكو القومية في استرجاع الهيبة الروسية القديمة وحفظ القوة الروسية الاقتصادية والعسكرية في تحقيق أهداف أمنية كبرى، يجب أن تَبلُغها بأي وسيلة، سواء بقوة الطاقة الروسية أو بالقوة العسكرية أو عبر استراتيجية تفكيك القوة الأميركية أو الحد منها. وإن تكن طهران ودمشق فرحتين بما حدث في الحرب الروسية الجورجية حيث لم تلتق واشنطن وموسكو على طاولة مقايضة يكسبُ فيها الطرفان وتخسر وتكسب بسببها أطرافٌ إقليمية، فدمشق ترى في هذه الأحداث استحالة تطبيق ما سوف تأتي به المحكمة الدولية للاغتيالات في لبنان، كما أن دمشق لا ترغب في التفاوض مع إسرائيل وهي محملة بأثقال العزلة الدولية وتبعات لبنان من الاغتيالات السياسية ودعم "حزب الله" وربما تراودها العودة إلى نفوذ أكثر قوة مما هو عليه اليوم في لبنان، وطهران أيضاً ترى نفسها أكثر قوة في ظل موسكو التي تدرك بأن طهران ودمشق ورقتان مهمتان. والحقيقة أن نجاح واشنطن في ضبط الشرق الأوسط لا يخدم أهداف روسيا، وبذلك سوف تعقِّد هذه الأخيرة الوضع بهاتين الورقتين لكي تضعف واشنطن في حلقات أخرى أو تستدعي واشنطن إلى مقايضات كبرى. وإذا كانت العلاقة بين موسكو والغرب قد ساءت، فإن هناك أطرافاً أوروبية تُقدِّر وتَفهَم تصرفات روسيا وتحركاتها في فضائها الخارجي وفي استخدام طهران ودمشق أوراقاً استراتيجية في الصراع العالمي مع واشنطن. أما تل أبيب، ورغم الخلاف مع موسكو، الذي كان أشده وضوحاً الدعم الإسرائيلي لجورجيا عسكرياً وسياسياً، فإنه لا محالة لتل أبيب من طَرقِ باب موسكو لتحسين العلاقات رغم أنها حليفة لواشنطن. وهناك أميركا اللاتينية، فلم تكن بوليفيا وفنزويلا على علاقات جيدة مع واشنطن بسبب الشركات الرأسمالية والعاملة ضد سلطة الحكومة المركزية، إلى جانب قضايا المخدرات التي تتهم بها واشنطن كاراكاس مع أطراف كولومبية، وجدير بالملاحظة أن الولايات المتحدة تخسر جوارها عندما تتكون سياسات ورؤساء يجتمعون ويناهضون القوة والحضور الأميركي في القارة الأميركية الجنوبية التي تعاني الفقر والتخلف وتتطلع إلى التنمية والتقدم حيث تمتلك موارد حيوية ومؤسسات تعاونية بين دولها، وفي إضاءة مهمة، فإن الفناء القريب من أي دولة كبرى يجب تأمين سياساته، وهنا سوف تعاني واشنطن كموسكو من الجوار الجغرافي القريب لها. وأطرف صور في عمليات الطرد المتبادل للسفراء بين واشنطن وكلٍّ من بوليفيا وفنزويلا وتجميد واشنطن حسابات خاصة لشخصيات فنزويلية، تكمن في خروج الرئيس الفنزولي شافيز أمام حشد كبير من الجمهور، وهو مرتدٍ لباساً أحمر، وكأنه في زمن الحرب الباردة، وكأنما يقول العالم اليوم ليس بعالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، ومع ذلك نقول بدورنا أيضاً إن هذا العالم لا يحمل عالم ما كان يتصف به في حقبة الحرب الباردة. ولئلا يعود "جورج أورويل" صاحب مصطلح الحرب الباردة التي كانت تعني الصراع العقائدي بين الكتلة الغربية الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والكتلة الشرقية الشيوعية والاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي، علينا التسليم بحقيقة أن العالم اليوم أصبح يتصف بصفات غير عالم الحرب الباردة من خلال العديد من المحاور، والتي تؤكد خاصية عالم اليوم، وأهم هذه المحاور الآتي: أ – الفاعلون: أصبح عالم اليوم يعرف فاعلين غير دوليين بصورة ضخمة من خلال الشركات وتحرك الأموال والتكنولوجيا والميليشيات مع التسليم طبعاً بالدور الطبيعي والمهم للدول، فمثلاً شهدنا أموالاً تتحرك وتهدد أمن دول متقدمة من خلال شراء أسهم لشركات ومؤسسات قوية وكبيرة كانت تُحسب لدولها الأساسية، كما شهدنا حرباً بين دولة وميليشيا كحرب إسرائيل و"حزب الله"، ناهيك عن حضور قوة العقائد الدينية والمذهبية في قوى "القاعدة" وما تحركه طهران عبر نفوذها المذهبي العقائدي. ب- ضبابية الأيديولوجيا: ليست هناك أيديولوجيا مضادة للرأسمالية لأن الرأسمالية أصبحت بها العديد من الجوانب الاشتراكية في القطاعات المهمة أو بالاحرى شبه اشتراكية كالصحة والأمن الاجتماعي وتوفير العمل، أي أن الرأسمالية تجيد الحفاظ على نفسها من خلال فلسفة الطريق الثالث وهو امتزاج الرأسمالية بالاشتراكية، وذلك بسبب الفلسفة البراجماتية بها، كما أن دولاً كثيرة أصبحت توَّاقة إلى التقدم ولو على حساب ما كانت تؤمن به، ومثال ذلك الصين التي أنشأت مدنا صناعية رأسمالية وجذبت التكنولوجيا ورؤوس الأموال الأجنبية. ولكن غياب الأيديولوجيا ساهم في بروز القوميات والأعراق وعودة الدين كمحور مهم في التكوين الاجتماعي الذي يهدد بعض الدول في إقليمها ونظامها السياسي مع سبب آخر هو فشل دول كثيرة في خلق قومية وطنية واحدة وفي إخفاق بعض القوانين فيها، كما أن العولمة بكل ما تتصف به من حرية التنقل والاتصال وحقوق الإنسان والتعبير السياسي أتاحت مجالات عديدة لبروز هوية مالية وعقائدية وقومية، من خلال سهولة الكسب والربح والتجمع، والذي في النهاية يعبر عن هويات وقوميات، تنبعث من جديد بقوة المال والنضال والهوية والمطالبة بحقوقها. ولئلا تعود يا "جورج أورويل" في عقول وتصورات السياسيين والقادة، لا بد من القول إن النظام العالمي أصبح عشوائياً لا يمكن ضبط العلاقات الدولية فيه لأن الدول لم تَعُد الفاعل الوحيد الذي يُحدد أطره. وفي ظل فشل النظريات الدولية وعدم وجود صراع أيديولوجي واضح خرجت محاولات لفهم هذا النظام اقتصادياً من خلال تتبع القوة المالية والتكنولوجية، ولكنها ليست بالضرورة كافية لفهم النظام، كما أن هناك حاجة ماسة لدراسة المجتمعات والقوميات والهويات والعقائد المختلفة، لأن الدول تتغير في نظامها وتتزايد أيضاً، كما تخرجُ قوى واستراتيجيات من هذه القوميات والهويات والعقائد في لعبة العلاقات الدولية، فوداعاً يا جورج أورويل وليأتِ أحدٌ يعلِّمنا المزيد عما يحدث في العالم أو يستطيع استشراف المستقبل القريب.