لقد راجت نغمة السوق الحرة في أوساط الأميركيين، إلى حد دفع المرشح الرئاسي "الجمهوري" جون ماكين إلى بث إعلان دعائي ترددت فيه أصداء ثالوث هذه النغمة الغريبة:"ارتفاع الضرائب، زيادة الإنفاق الحكومي، وظائف أقل"، وهي النغمة المعادية للتدخل الحكومي في شؤون الاقتصاد القومي. ومن الحقائق البديهية الشبيهة في اعتقاد الأميركيين على نحو طائش ومتسرع إنه ليس في مقدور الحكومة صنع الثروة، إنما بوسعها أن تدمرها أو تصادرها أو تعيد توزيعها لا أكثر. وفيما لو صح أن ارتفاع الضرائب يؤدي إلى خنق الوظائف في حين تعجز الحكومة عن صنع الثروة –بحكم أن قدرة صنع الثروة هي خاصة بالسوق الحرة وحدها- فإن هناك ما يبرر إذاً ضرورة تصويت أفراد الطبقة العاملة التي تعاني الأمرين كي تلبي الاحتياجات اليومية لعائلاتها، لصالح الحزب "الجمهوري" وليس "الديمقراطي"، على أساس اقتصادي بحت. وليس لهؤلاء من حاجة للتشبع بأي قضايا ثقافية حتى يتمكنوا من التوصل إلى هذا القرار الانتخابي الذي يمسهم مباشرة. والسبب هو فشل "الديمقراطيين" الذريع في تقديم أي فكرة اقتصادية بديلة لنغمة السوق الحرة هذه. ووفقاً للاعتقاد نفسه، فسوف يواجه "الديمقراطيون" معضلة حقيقية في كسب أصوات ناخبي الطبقة العاملة، طالما ظلوا على تركيزهم المستمر على ناخبي الطبقة الوسطى، ولن يكون في مقدورهم تغيير المواقف الاقتصادية للناخبين، ما لم يقدموا سياسات اقتصادية قادرة على منافسة سياسات خصومهم في الحزب "الجمهوري". غير أن الحقائق هنا بديهية وواضحة للغاية، فخلال الأربعين عاماً الماضية من هيمنة "الجمهوريين" على البيت الأبيض، لم يزد متوسط المعدل السنوي لتوفير إداراتهم للوظائف على ما يقدر بحوالى 1.4 مليون وظيفة. أما في ظل هيمنة "الديمقراطيين"، فالملاحظ أن ذلك المعدل قد قفز إلى 2.5 مليون وظيفة سنوياً، أي بزيادة مقدارها 78 في المائة. وتجب الإشارة هنا إلى أن الرئيس الأسبق جيمي كارتر نال حظاً من الإشادة فيما يتصل بأدائه الرئاسي في مجال توفير الوظائف الجديدة، أكبر مما ناله بيل كلينتون لاحقاً. وهناك أسباب كثيرة تفسر هذا التفاوت الكبير في الأداء الاقتصادي، من بينها الحقيقة البسيطة التالية: فبينما قد يكون ضرورياً لرفع أداء السوق الحرة، أقل قدر ممكن من التدخل الحكومي، إلا أن ضعف التدخل الحكومي ليس بالضرورة أن يعد شرطاً لازماً لتحسن النمو الاقتصادي، أو لزيادة إنشاء الوظائف الجديدة، أو حتى لصنع الثروات الخاصة. وللمزيد من توضيح هذه الحقيقة، ينبغي علينا النظر إلى مجموعة الصناعات ذات الصلة عادةً بالاقتصاد الحديث: الطائرات النفاثة، أجهزة الكمبيوتر، الإنترنت، نظم تحديد المواقع الدولية، تكنولوجيا الليزر، تقنيات الرنين المغناطيسي، الفولاذ العالي الصلابة، تكنولوجيا النانو، وصناعات البلاستيك المقوى... إلى آخره. وقد أدت هذه الابتكارات الصناعية الجديدة جميعها، إلى إنشاء عشرات الملايين من الوظائف المجزية التي عادت إلى من شغلوها بمكاسب كبيرة. ولكن تجب الإشارة إلى أن كل واحدة من هذه الصناعات لم تنهض إلا نتيجة للأبحاث العلمية المرتبطة بها، التي مولتها الحكومة. كما أنها لم تنشأ إلا بسبب التشريعات والنظم الضابطة لها، إلى جانب مشاركة الحكومة في إنشاء السوق التي تتطلبها منتجات هذه الصناعات. ويريد دعاة السوق الحرة للناخبين أن يصدقوا أن الحكومة تؤدي دوراً هادماً وتخريبياً في نمو الفرص التي يكون في مقدور السوق الحرة خلقها لولا التدخل الحكومي. إلا أن الحقيقة هي أن تاريخ اقتصادنا المعاصر يثبت نقيض هذه الفرية تماماً. والمقصود بهذا النقيض، أن تدخل الحكومة ونشاطها في السوق، يعدان شرطاً لا مناص منه لنمو عدد هائل من أكثر صناعاتنا ازدهاراً وإنشاءً للوظائف. وبفعل ذلك التدخل والنشاط، أسهمت الحكومة نفسها في صنع الثروات الخاصة في ذات الوقت. وتحاول نغمة السوق الحرة تشويش حقائق أساسية على الناخبين. منها على سبيل المثال أن تكلفة إطلاق التكنولوجيا والصناعات الجديدة، عادة ما تكون باهظة للغاية، إلى جانب عدم وضوح آفاق السوق التي تباع فيها هذه التكنولوجيا والصناعات لدى إنتاجها. وهذان عاملان لا يشجعان أي مستثمر عاقل على التورط في الإنفاق عليها، سواء كان هذا المستثمر خاصاً أو حتى رؤوس أموال متخصصة في المغامرات الاستثمارية. وليس أدل على هذه الحقيقة من أن أجهزة الكمبيوتر الأولى التي أنتجت قبل 60 عاماً من الآن، كان الواحد فيها بحجم غرفة كاملة، وكانت من الغلاء بحيث انصرفت عنها حتى البنوك التي كانت في أمس الحاجة إليها في تنظيم معاملاتها اليومية. في مثل هذه الحالات، تعد المبادرة الحكومية لا غنى عنها في تمويل البحث العلمي وإنشاء السوق المحتملة لهذه الابتكارات، وهي مبادرة من شأنها خفض التكلفة التي يتحملها القطاع الخاص بدرجة كبيرة. ويفضل بالطبع أن تشارك الحكومة في مثل هذه الأنشطة جنباً إلى جنب قيامها بالمهام الأخرى الملقاة على عاتقها، مثل الأمن القومي والدفاع وتوفير الرعاية الصحية العامة للمواطنين، وكذلك توفير التعليم... إلى آخره. بقي القول إن مشاركة الحكومة في الدفع بالنمو الاقتصادي وإنشاء الوظائف وصنع الثروة، تتطلب أمرين هما: فرض الضرائب والإنفاق العام. وإذا ما تمكن "الديمقراطيون" من توضيح هذه الحقائق المتعلقة بأهمية دور الحكومة في كل ما ورد أعلاه، فعندها سوف يدرك الناخبون أين تكمن مصلحتهم الاقتصادية الفعلية، وإلى أين يجب أن تذهب أصواتهم في شهر نوفمبر المقبل. جون إي. شفارتز أستاذ فخري بجامعة أريزونا وزميل رئيسي بمجموعة "ديموس" لسياسات الرأي العام بنيويورك ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"