لم يعد الصراع في أفغانستان، وما يحدث هناك من اضطربات وعنف مجرد حرب بعيدة عن فرنسا، أو بمنأى عن التغطية الصحفية لوسائل الإعلام الفرنسية، التي يبدو أنها أشاحت بوجهها عما يجري هناك, بل تحول هذا الصراع إلى رهان سياسي حقيقي على الساحة الداخلية، تنقسم إزاءه الطبقة السياسية الفرنسية المكونة من الأغلبية الحاكمة والمعارضة "اليسارية", إضافة طبعاً إلى انشغال الرأي العام الداخلي بالنظر إلى التطورات الأخيرة التي شهدتها أفغانستان. ومنذ الهجوم الذي شنته حركة "طالبان" على القوات الفرنسية وسقوط عشرة جنود وجرح 21 آخرين في 18 من أغسطس الماضي، والصحف لا تكف عن التطرق إلى الموضوع وتتناوله بالبحث والتحليل. والحقيقة أن الحادث الأليم الذي أودى بحياة الجنود الفرنسيين، يعيدنا إلى النقاش السياسي المحموم، وأيضاً إلى الانقسام الواضح في المواقف الذي ظهر على الساحة بين "اليمين" و"اليسار" عقب قرار الرئيس نيكولا ساركوزي تعزيز الوجود الفرنسي في أفغانستان بإرسال 700 جندي إضافي إلى ساحة القتال, فجاءت حادثة مقتل الجنود الفرنسيين لتؤجج الجدل وترفعه إلى مستويات جديدة من الحدة والانقسام. ويبدو أن سقوط عناصر من القوات الفرنسية كان كافياً لفتح حوار داخل البرلمان الفرنسي- وهي ظاهرة نادرة فيما يتعلق بالقضايا الاستراتيجية التي تناقش خلف الأبواب المغلقة- بعقد جلسة خاصة حول التواجد الفرنسي في أفغانستان في 22 من سبتمبر الجاري. لكن النقاش الذي يسعى إلى بسط الانتشار العسكري الفرنسي في الخارج على طاولة البحث يواجه العديد من الإكراهات والقيود، تشي بأن النتيجة ستكون بعيدة عن تغيير السياسة الفرنسية. فبعد مقتل الجنود الفرنسيين واستثارة الرأي العام الداخلي لن يجرؤ "اليسار" على طلب الانسحاب من أفغانستان، لأن ذلك سيخلف انطباعاً سيئاً بأن "طالبان" حققت انتصاراً سياسياً واستراتيجياً على فرنسا، وأن هذه الأخيرة أضعف من أن تحارب في الخارج، وتقضي على حركة من المتمردين. كما ستتكرس رسالة واضحة في الأذهان مفادها أن فرنسا لن ترسل مستقبلاً جنودها إلى الخارج إذا كانوا سيواجهون خطر الموت, وهو ما سيعتبر تراجعاً استراتيجياً لفرنسا على الصعيد العالمي. وبالرجوع إلى الحملة الانتخابية للرئيس نيكولا ساركوزي في العام 2007 نجده قد تطرق إلى احتمال سحب القوات الفرنسية من أفغانستان, لا سيما وأن فرنسا في تلك الفترة كانت تفاوض من أجل إطلاق سراح مختطفين من مواطنيها محتجزين لدى "طالبان". لكن ما أن دخل قصر الإليزيه حتى غير ساركوزي خطابه، وقرر تعزيز التواجد الفرنسي في أفغانستان, وبخاصة أن أي انسحاب فرنسي في تلك المرحلة كان سيعتبر خيانة لأميركا، في وقت يسعى فيه الرئيس الفرنسي إلى إعادة مد الجسور مع واشنطن وفتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية بعد التوتر الذي شابها في عهد الرئيس السابق جاك شيراك وموقفه المعارض للحرب في العراق. لذا جاء إرسال 700 من الجنود الفرنسيين إشارة من باريس أنها تقف إلى جانب واشنطن في هذه الأوقات العصيبة التي يمر بها العالم، وبأنها منخرطة في الحرب الأميركية على الإرهاب. وفي الوقت الذي كانت فيه بعض الأصوات ترتفع مطالبة بانسحاب القوات الفرنسية وغيرها من أفغانستان، أصر مسؤولو حلف شمال الأطلسي أن الحل يكمن في تعزيز القوات بأفغانستان، إن لم يكن لدحر "طالبان"، فعلى الأقل لتفادي وقوع البلاد تحت سيطرتهم. والواقع أن تبرير حلف شمال الأطلسي مردود عليه, فإذا كان الحلف غير قادر على كسب الحرب، فذلك لأن استراتيجيته العسكرية المتبعة فاشلة ولم تحقق أغراضها. فبعد استقبال قوات الحلف في البداية على أنهم جاءوا ليحرروا البلد من حكم "طالبان"، فإنهم اليوم أصبحوا أقرب إلى قوات الاحتلال, وحتى حكومة كارازي التي نصبتها الولايات المتحدة بدأت تنتقد في الآونة الأخيرة قوات حلف شمال الأطلسي بسبب تصرفاتهم المتعجرفة والمهينة بالنسبة للعديد من الأفغان, فضلاً عن قصفهم لبعض المواقع وقتلهم للمدنيين. وهكذا دخلت قوات حلف شمال الأطلسي في دوامة انعدام الثقة المتبادلة مع الأهالي وتنامي مشاعر الشك والكراهية. وبدلاً من كسب القلوب والعقول التي راهن عليها حلف شمال الأطلسي، نجد أن "طالبان" هي من تقوم بذلك بعدما حظيت بشرعية جديدة قائمة على محاربة المحتل والتصدي للجيوش الغازية, لذا من الصعب على قوات "الناتو "النجاح في أفغانستان بعدد قوات لا يتعدى 70 ألف جندي في حين فشلت روسيا في إخضاع البلد بحوالى500 ألف من جنودها. ولم يعد خافياً اليوم أن عدد القتلى من الجنود الأميركيين هو أكبر في أفغانستان منه في العراق، ليأتي القتلى الفرنسيون العشرة كصدمة للرأي العام الفرنسي وفرصة لإثارة الأسئلة حول مجمل المشروع الغربي في أفغانستان. واللافت أنه رغم احتدام القتال في أفغانستان، مازالت فرنسا تتجنب استخدام وصف الحرب، حتى لا تخيف الرأي العام الفرنسي، في منحى بدأ يذكر الفرنسيين بحرب الجزائر. والأكثر من ذلك أن هذه الحرب لا تتعلق بتدخل عسكري الهدف منه إقرار وقف إطلاق النار، كما حصل في البلقان, بل الهدف هو خوض معارك حقيقية ودحر عدو يتبنى حرب العصابات. ولأول مرة في فرنسا يبدو أن الأوساط الإعلامية والرأي العام أصيب بعقدة سقوط الضحايا التي اشتهر بها الأميركيون, بحيث أصبح ينظر إلى الأخبار القادمة من أفغانستان من زاوية عائلات الضحايا والألم الذي يشعر به الأقارب بدلاً من إثارة الأسئلة الاستراتيجية. ويبدو أن حلف شمال الأطلسي الذي لا يستطيع خسارة الحرب، وفي الوقت نفسه غير قادر على كسبها، قد سقط في فخ لم يعد معه تحقيق النصر هو الهدف, بل فقط احتواء الصراع والحد من الخسائر.