مقال هذا الأسبوع ليس محاولة رمضانية لاستجلاب الاستعطاف، ولا هو عرضٌ غير مناسب لتجربة ذاتية قد لا تهم القراء، إنه -في ظني- تذكيرٌ للقدرة الإلهية في مدها للغوث لمن كان وسيكون ضعيفاً محتاجاً لها دائماً وأبداً. في لحظة من لحظات حياتنا البشرية تداهمنا فكرة أننا أقوياء بأموالنا ونفوذنا وبما حُشر في عقولنا من معلومات وأخبار وتحليلات، نعتقد أن الجميع سيكون حولنا عندما نمرض أو نفزع أو نحتاج، نحن متأكدون -جاهلين- من حبور أيامنا القادمة ومن قوة بنيان الحاضر، ومن إخفاء ما لا ترغب في إظهاره والإخبار عنه عندما يتعلق الأمر بالماضي البعيد. ... إليكم هذه الحكاية: صيف هذا العام قطعت إجازتي التي كنت أقضيها في إحدى الدول العربية للعودة إلى بلادي لأمر مهم يقتضي البقاء عدة أيام هناك. أنهيت أعمالي في الوطن وعدت إلى حيث أهلي.. ومر يومٌ بعد الإياب، وجاء يوم آخر يحمل لي ما لم يمر عليَّ من قبل؛ ففي فترة ما قبل مغرب أحد الأيام الأولى من شهر أغسطس أحسستُ بعرق غزير، وأعقب ذلك قشعريرةُ برودة لا يمكن وصفها، ثم آلامٌ في المفاصل والرقبة وضيق في التنفس، وما هي إلا سويعات قليلة وإذ بي أشعر وكأنني مدفوعٌ إلى جُبٍ عميق.. خِواءٌ.. وفراغ ونظرات زائغة.. وفقدان لكل متعة ونشاط؛ لم أعد أطيق رائحة الطعام، ولا حتى تحريك القلم لكتابة سطر واحد، ولم أستطع -من العجز- قراءة صحيفة أو فتح حاسوب، اختفى صوتي بعد ضعفه، وشذت ردود أفعالي، وانقطع -تقريباً- تواصلي مع العالم الخارجي المحيط. اعتقدتُ أن أمراً عضوياً في جسمي قد حدث، ولهذا سارعت إلى المستشفى وأُجريت لي تحت إشراف طبيب صديق جميع الفحوصات والاختبارات، فكانت كلها سليمة -ولله الحمد- ولا مؤشر واحد يعطي دلالة على أن وظائف جسمي الحيوية تحتاج للمعالجة والدواء. بعدها جاء دور طبيب الأمراض النفسية، الذي أجرى اختبارات لردات الفعل، فكانت الاستجابات طبيعية، وفي آخر المشوار الطويل قال هذا الطبيب: أتريد دواءً لمعالجة حالة القلق التي تبدو عليك ولا يعرف أحدٌ أسبابها إلا أنت؟.. أجبتُ بنعم، وكنت -كما يقول البعض- متسرعاً في إجابتي! مر أسبوع وأعقبه أسبوع آخر، واقترب شهر أغسطس من الرحيل، وكذلك نحن المستعدون لمغادرة المصايف؛ وقبل ثلاثة أيام من العودة، وبعد استعمال الدواء بأقل من أربعة عشر يوماً، وهي مدة غير كافية للحكم على نجاح أو فشل مثل هذه النوعية من الأدوية، وقتها وفي الشطر الأخير من ليل رطب فرشتُ سجادة صلاتي واتجهتُ للقِبلة ثم رحت أُصلي لله، وأعقب الصلاة بالدعاء والاستغفار والدموع، ناجيتُ الخالق الرحيم أن يلطف بعبده، فالوهن شديد، والضر قد مسني واستوطن، والآلام غير المحددة تلبستني. تضرعتُ للمقتدر أن يكشف الغم ويرفع السقم، وأن يأخذ بيدي إلى بر العافية بعد أن غرقتُ في يم المرض غير المعروف وغير الـمُشخص إلا بالظن والتقريب. لم يكن يشغلني حينها إلا النجاة والعافية ومعرفة علتي، فلقد ضجر الولد، وابتعد الصديق، وتضاءلت -في عيني- متع الحياة وزينتها وزُخرفها، ولم يبقَ إلا الفرد الصمد الديان على مُلكه، الذي -عز شأنه- لا يمل السؤال ولا يرد الاستغاثة والمناجاة. ... وما هي إلا سويعات حتى جاءني الفرج ممن يُجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؛ لقد عدتُ تدريجياً وبصورة سريعة إلى ما كنت عليه، ومع الشكر والثناء للخالق على هبته ورحمائه، رحت أتساءل: كيف يغفل الناس عن هذا الكنـز الاستشفائي الإلهي؟ طرحتُ نفس السؤال على صديقي الطبيب الذي يجمع الـحُسنيين: إيماناً عميقاً بالقدرة الإلهية، واقتداراً في العلوم الطبية التطبيقية.. أي الغيب وما وراء الحواس، والمادة وحركة الخلايا ومبضع الجراح وما تُظهره مجاهر المختبرات. قال الصديق الطبيب: ما أصابك -ويُصيب غيرك- عبارة عن حزن عميق أو انعكاس لحالة قلق عاصف، أو معاناة مكبوتة قد تكون أمس أو قبل عام أو هي وليدة زمن طويل، مرت تلك العواصف الإنسانية وقد حسبتها أنها لم تترك أثراً، لكنها لم تكن كذلك، لقد وجدتْ -بعد أن نامت- يوماً عبرت عن نفسها من خلال العوارض التي شعرت بها والتي يسميها الأطباء النفسانيون مرة بالصدمة النفسية أو حدث كآبة.. الخ. والحيرة -كما يقول الصديق العالم- هي أين يجد علماء وأطباء النفس أسباب ما يحدث؟ والأكيد أن الناقلات العصبية والمسماة "السيرتونين" والتي مهمتها إيجاد توازن تفاعلي إيجابي بين الإنسان ومحيطه، وبدون هذه الناقلات لا يستطيع الدماغ معالجة المعلومات الواردة إليه ولا إرسال التوجيهات لإدارة بقية أعضاء الجسم، لأن الخلايا العصبية ليست متصلة بعضها ببعض، بل هناك فجوات.. عندما يحدث العطل والبطء والمرض. السؤال -كما يقول الطبيب الصديق- هل توقف الناقلات العصبية هو الذي يؤدي إلى الاعتلال النفسي، أم أن هذا النوع من الاعتلال يؤدي إلى عزوف الناقلات العصبية عن أداء عملها؟ عَلِمتُ من هذا العالِِم أن الصلاة والدعاء والاستغفار والمناجاة للقيوم تقوم كلها بجهد عظيم في مساعدة الناقلات للعودة إلى عملها المعتاد.. إلى جانب الأدوية الداعمة، لكن مشكلة الأدوية أن أثرها لا يظهر إلا بعد أسابيع طويلة، وهو أمرٌ لا يتمناه المريض ولا ذووه. هذه معلومات مُذهلة لكن الأهم منها هو هذا الشفاء السماوي السريع، وتبقى ملاحظة: ما قلناه ليس دعوة لمقاطعة "البروزاك" والعائلات الدوائية الأخرى متى ما اقتضت الحاجة لذلك، ولا تعني تجربتي وكلام الطبيب الصديق كذلك ألا أزمة ستُعاود الـمُصاب مرة أخرى حتى وهو يدعو ويلحُّ على ربه بكشف الضُر، لكن ما هو قريب من اليقين -وتجربتي خير برهان- أنَّ في صفحات كتاب الله العظيم والرصد العلوي للعجز الإنساني.. الشفاء.. وأي شفاء!