مثلما كشفت ظاهرة "أوباما" عن وجود صدع في البنية السياسية الأميركية فإن ظاهرة "سارة بالين" تأتي لتحبط الجهود التي يبذلها "أوباما" لرأب هذا الصدع، بل ولتساهم في تعميقه. وقد كان يمكن لهذه الانتخابات أن تكون مختلفة، ولكن التغيير الذي حدث في المقاربة الاستراتيجية لحملة "ماكين" واختياره لـ"ساره بالين" حاكمة ولاية آلاسكا كمرشحة لمنصب نائب الرئيس غيّر دينامية الحملة الانتخابية. فـ"ماكين" الذي كان "الجمهوريون" قلقين بشأن مقدرته على اجتذاب القاعدة الانتخابية للحزب، وخصوصاً الطبقة العاملة من البيض، نجح باختياره لـ"بالين" في إعادة الحيوية لحملة الحزب "الجمهوري" التي كانت تعاني من الهزال.. كيف حدث هذا؟ كان الأعضاء المعينون في الحزب هم الذين امتلكوا الشجاعة كي يقفوا في مواجهة الكاميرات، ويحاولوا التأكيد على نقاط من مثل أن "بالين" تمتلك خبرة جيدة في العمل التنفيذي، وأنها "مصلِحة مُجرّبة" وأغرب تلك الأقوال هي أنها "تتمتع بخبرة في مجال السياسة الخارجية" (لأنها حاكمة لولاية تطل على مضيق بيرنج الذي يفصل بين الولايات المتحدة وأقصى منطقة في شرق روسيا) وأيضاً مقولة أنها "تجسد قيم الأسرة الأميركية". ويستطيع المرء بالطبع أن يجادل بشأن كل مقولة من تلك المقولات.. ولكن حتى لو افترضنا أنها صحيحة فإنها لا تعتبر كافية مع ذلك. فالحقيقة هي أن ظاهرة بالين الشخصية، وظاهرة "أوباما" ساهما في إقصاء الناخبين، ولكن بطريقة مختلفة في كل معسكر من المعسكرين. فالأميركيون اليوم يشعرون بأنهم قد فقدوا البوصلة في عالم ينحو تدريجياً للخروج عن نطاق السيطرة وتقتضي التحولات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تجري فيه أثماناً باهظة. ولقد فهم "أوباما" مصدر هذا الشعور لدى الأميركيين، ونادى بالتغيير، وحث الجماهير على العمل وعلى تمكين نفسها، كي تصبح هي أداة هذا التغيير. في مواجهة نفس الشعور لدى القاعدة الانتخابية للجمهوريين أكد "ماكين" و"بالين" على صواب ما يعتقده الناس، ووصموا هؤلاء الذين لا يعتقدون ذلك بأنهم قد فقدوا الإحساس بنبض الزمن. وفي حين يدعو أوباما الأميركيين لتوجيه الأسئلة وتحمل المسؤولية الملقاة على عاتق كل منهم، فإن"بالين" مثلها في ذلك إلى حد كبير مثل "ماكين" تبشر باليقين.. وفي حين يتحدث أوباما إلى الجانب الطيب في ذوات الأميركيين، فإن بالين تستخدم "التهكم" وتعبر عن "غضبها" من "النخبة". لعدة أسابيع ظللت أتابع عن كثب وبتركيز كل أقوال وتصريحات "ماكين" محاولا استخلاص فحوى الرسالة التي يريد توصيلها. واستمعت في هذا السياق بعناية لما قاله هو و"أوباما" في أثناء المقابلة التي أجرياها في كنيسة "سادل باك" واندهشت غاية الدهشة لما تبين لي من افتراق غير عادي في مقاربة كل منهما. استخلصت أن "أوباما" رجل يمتلك عقلية تأملية، لا تتردد عن توجيه الأسئلة الصعبة، في حين أن "ماكين" رجل يتميز بذلاقة اللسان، وبإيمانه الوثوقي بكل ما يعتقد. ولقد لاحظت أيضاً أن نفس هذا النوع من اليقين يتبدى في تلك الثقة المفرطة بالنفس والسخرية اللتين تميزان شخصية "بالين" فهي لا تعرف الشيء الكثير، ولكن ما تعرف يكفي، كما أنها متأكدة منه إلى درجة اليقين كذلك. ولو أخذنا في اعتبارنا أيضاً أن "بالين" تبدو كامرأة مزهوة بـ"عاديتها" فإن جاذبيتها ستتجلى لنا في أوضح صورة. فالنساء يشعرن بأنها امرأة لا تختلف عنهن من أي ناحية، ولا تتميز عنهن بشيء. فكما قالت امرأة عقب كلمة في اجتماع "فرجينيا" فإن عدد الآباء الأميركيين الذين توجد لديهم بنات حوامل دون أن يتزوجن أكثر من عدد الآباء الأميركيين الحاصلين على درجات من جامعة "هارفارد"، ثم إنها لا تبدو مختلفة عن باقي النساء أو "نخبوية" كما يبدو أوباما. إن الشيء الذي تمخض في النهاية بعد كل ما حدث من تطورات في الحملتين الانتخابيتين هو أنه قد أصبحت لدينا مجموعتان مختلفتان تنظران إلى الأشياء من منظورين مختلفين، وتتحدثان أيضاً بلغتين مختلفتين. ونظراً لأن هاتين المجموعتين متماثلتان في الحجم تقريباً، فإن حظوظهما الانتخابية تبدو متقاربة للغاية.