على ضوء الأحداث الأخيرة في جورجيا وأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، يتضح أن السياسة الخارجية الروسية تمر بتحولات عميقة، أتت كرد فعل عنيف ومباشر على ما استمرت دول الغرب في ممارسته تجاه روسيا ومصالحها الوطنية الأمنية والاستراتيجية والاقتصادية، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. بعد ذلك الانهيار السريع، تفتقت لدى الروس أحلام جديدة بأن عالماً جديداً قد ظهر أمامهم بعد أن تخلصوا من الشيوعية، عالم تسود فيه الديمقراطية وحقوق الإنسان والمبادرات الحرة والتعاون والقانون. ونظرت النخبة الروسية الجديدة إلى الغرب بأنه مصدر الأمل والخلاص، فهل كانت تلك هي الحقيقة أم أن حقائق أخرى ظهرت أمام الروس غيرت من نظرتهم؟ ربما كانت تلك الحالة رداً سيكولوجياً ظهر في شكل شعور بالغضب والمرارة تجاه الماضي، ولكن يبدو أن الغرب توصل إلى تفسيرات خاطئة، فقد تم تناسي قوة فعل مقولات وصيغ المصالح الوطنية الروسية، خاصة عندما قال المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما، إن مصالح الاتحاد السوفييتي السابق لا تنطبق على روسيا الجديدة "الديمقراطية"، فروسيا وفقاً له، يجب عليها أن تتبنى مقولات جديدة لسياستها الخارجية تقوم على تحالفها مع الغرب الديمقراطي. الواقع هو أن ذلك الطرح ليس هو ما يعتقده الروس وينادي به مفكروهم. يوجد العديد من المفكرين الروس المعاصرين المخضرمين، يرون أن حقائق معينة غير متغيرة توجد ضمن العلاقات الدولية، ووفقاً لذلك، فإن روسيا قبل قيام الاتحاد السوفييتي كانت قوة كبرى يعتد بها، وعندما عادت إلى الظهور مرة أخرى بصيغتها الحالية يصبح من السطحية والسذاجة أن تتوقع الأطراف الدولية الأخرى أن تنكمش روسيا داخل قوقعتها وتتجاهل الأحداث الزلزالية، التي تحدثها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي بالقرب من حدودها. يلاحظ أنه مع انحسار موجة المد التفاؤلي الذي ساد في الفترة المباشرة لانهيار الاتحاد السوفييتي، أخذت وزارة الخارجية الروسية في إحداث تغييرات واضحة في السياسة الخارجية من شأنها التخفيض من النغمة المؤيدة للاندفاع نحو الغرب وتتبنى سياسات ضمن إطار منظومة "كومون ويلث الدول المستقلة"، بدت أكثر تناغماً وصدقية مع المصالح الوطنية الروسية. ضمن هذا الإطار، بدأ المسؤولون الروس الكبار بنعت بلادهم بأنها قوة عظمى، لقد كان ذلك بحد ذاته ابتعاداً واضحاً عن التفكير الجديد الذي بدأت تطلقه عناصر النخبة الروسية الموالية للغرب آنذاك. الممارسات التي قام بها الغرب واستفزت روسيا جعلتها تقحم نفسها بقوة في الشؤون الإقليمية لمناطق نفوذها السابقة، كان ذلك في بداية الأمر في نطاق الحروب في جورجيا، وحرب أذربيجان مع أرمينيا والحرب في طاجيكستان. جاء ذلك نتيجة للفكر الذي يقول إنه يتوجب على روسيا وحدها أن تضمن الاستقرار الإقليمي؛ لأنه لا يستطيع أي طرف آخر القيام بذلك غيرها. وأتت الحرب في الشيشان لكي تضيف دعماً إلى الاعتقاد السائد بأنه إذا لم تتم السيطرة على الصراعات الإقليمية في المناطق المتاخمة لحدود روسيا، فإنها هي ذاتها ستشهد انفجار موجة الصراعات المماثلة داخل حدودها، وضمن ذلك تنظر روسيا إلى مناطق "الكومون ويلث" الجديد على أنها مجال خاص محصور للنفوذ والهيمنة الروسية وحدها وليس لغيرها. التدخل الروسي الأخير، وربما ليس هو النهائي في جورجيا، هو رد فعل عنيف على ما يتم من ممارسات تستفز روسيا، كعمليات ضم جديدة لدول الاتحاد السوفييتي السابقة إلى منظومة الاتحاد الأوروبي، وتوسعة عضوية حلف "الناتو" شرقاً، وهو أيضاً إشارة واضحة إلى غضب موسكو الشديد من إعلان إقليم كوسوفو استقلاله من جانب واحد، وقيام كل من الولايات المتحدة وبولندا بالتوقيع على اتفاقية الدرع الصاروخية، لنشر الصواريخ على الأراضي البولندية. تنظر روسيا إلى هذه الخطوة بالتحديد على أنها تستهدف أمنها الوطني ومصالحها بشكل مباشر، في الوقت نفسه الذي تقول فيه الولايات المتحدة عكس ذلك، وإن المستهدف هو دول مارقة كإيران. ما يعزز من المخاوف الروسية هو أن اتفاقية الصواريخ تشمل بنداً ينص على قيام الولايات المتحدة بمساعدة بولندا في حال تعرضها لأي تهديد خارجي، وأن تُنشأ قاعدة عسكرية في بولندا. تفاعل الأحداث بهذا الشكل، يدل على أن روسيا تخضع لضغوط شديدة بالنسبة لأمنها الوطني، وهذا يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام ردود فعل روسية أكثر عنفاً، فهل هي الحرب الباردة من جديد، أم أن هناك وضعاً أخطر ينتظر العالم في تلك المناطق المشتعلة عبر التاريخ؟