شهد الإعلام التلفزيوني العربي على مدى الأعوام الأخيرة، تطوراً كمياً وكيفياً ملحوظاً، مما أتاح للمشاهد العربي فرصة الاختيار وتحقيق التعرض الانتقائي للمخرجات التلفزيونية، إضافة إلى ما أفرزه من منافسة كبيرة على الجماهير والمعلنين، مما انعكس على أجندة المحطات التلفزيونية واهتماماتها ومساحة الحرية فيها. وقد شغلت مخرجات المجال التلفزيوني الفضائي العربي اهتمام الباحثين في علوم الاتصال والاجتماع والنفس والسياسة، لرصد تأثيراتها وعلاقاتها بالبيئة الثقافية والسياسية، وجاء اهتمام باحثي الإعلام منصباً على الدراسات المقارنة بين قناة وأخرى، أو موقف قناة بعينها من قضية ما، أو أنماط المشاهدة, وانتماءات الجمهور... من هنا جاء اهتمام الكتاب الذي نعرضه في المساحة التالية، بتناول "التلفزيون الفضائي العربي", منذ بداية ظهوره وعبر مراحل تطوره، تقنياً وإدارياً وتحريرياً، مما يجعله مرجعاً لدراسة المشهد الإعلامي التلفزيوني العربي. في أكثر من 400 صفحة وخمسة فصول، تتابع مؤلفة الكتاب الدكتورة هبة شاهين تطور تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية، ونشأة "عرب سات"، وتطور القنوات الفضائية المصرية، ثم نشأة وتطور القنوات الفضائية الحكومية العربية، وأخيراً القنوات الفضائية العربية الخاصة. تتوقف المؤلفة عند تطور البث الفضائي منذ المحاولات الأولى في هذا المجال, وقد جسدها إطلاق أول قمر اصطناعي عام 1957, وما أعقب ذلك من محاولات حققت حلم تبادل البرامج التلفزيونية بين مواقع في أوروبا وأميركا, وصولاً إلى مرحلة البث المباشر. على هذه الخلفية نشأت المؤسسة العربية للاتصالات الفضائية (عرب سات) عام 1976 كمنظمة إقليمية فنية تابعة لجامعة الدول العربية, تعنى بتصميم وتنفيذ وتشغيل نظام فضائي عربي لصالح الدول الأعضاء. وتمتلك المؤسسة حالياً أربعة أجيال من الأقمار الاصطناعية, أطلقت أولها عام 1985, أما أحدثها فأطلقته عام 2006. ثم تعززت الجهود العربية في مجال البث الفضائي, بتأسيس الشركة المصرية للأقمار الاصطناعية عام 1996, والتي أضافت في هذا المجال, حيث تعتبر الكاتبة أن قطاع القنوات الفضائية المصرية, يمثل اليوم أكبر قطاع فضائي حكومي ناطق باللغة العربية. ثم جاء إطلاق القنوات الفضائية الخاصة المصرية في عام2001, بعد عقود من احتكار الدولة للبث الإذاعي والتلفزيوني, وهي القنوات التي "حققت نجاحاً في جذب اهتمام الجمهور ببرامجها وفقراتها المتنوعة". ومن استعراضها لتفاصيل خريطة البث الفضائي التلفزيوني الحكومي العربي, تسجل المؤلفة حدوث تطور في هذه الخريطة, حيث تحاول القنوات التلفزيونية الحكومية العربية, التواجد على الساحة الإعلامية, والتعبير عن سياساتها وأهدافها, إضافة إلى إبراز وجهة نظر النظام السياسي القائم تجاه القضايا المختلفة, ومخاطبة الجمهور العربي في الداخل والخارج. وعامة فإن خريطة القنوات الفضائية العربية، تشكل فسيفساء ذات ألوان مختلفة، حث تصنفها المؤلفة عبر عدة تقسيمات, وذلك مثلاً من حيث نمط الملكية الفكرية؛ فمقابل القنوات التي تمتلكها وتديرها الحكومات العربية، فإن القنوات الخاصة العربية مملوكة وممولة من طرف رؤوس الأموال العربية. أما من حيث نوع البرامج، فهي إما قنوات عامة تقدم مضموناً متنوعاً لجمهورها، أو قنوات متخصصة تستهدف جمهوراً محدداً. ومن حيث نوعية البث، فهي أيضاً إما قنوات مفتوحة الاتجاه يستطيع الجمهور استقبالها مجاناً ودون رسوم، وجميع القنوات الحكومية من هذا النوع، بينما اعتمدت قنوات خاصة قليلة على نظام التلفزيون مدفوع الأجر (التشفير). وفيما يخص معيار التصنيف اللغوي، فإن معظم القنوات الفضائية الحكومية العربية تبث باللغة العربية إلى جانب لغات أجنبية كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والعبرية... فيما تقل نسبة البث بهذه اللغات لدى القنوات الفضائية العربية الخاصة. وقد انطلقت إلى الفضاء منذ التسعينيات وإلى الآن مئات القنوات التلفزيونية الفضائية العربية الخاصة، تتبع المؤلفة تواريخها وتقدم سيراً ذاتية لحوالي 300 منها, وكما توضح فقد ارتباط تعدد القنوات الفضائية العربية الخاصة بنشأة مدن الإنتاج الإعلامي العربية وتطورها، خاصة في القاهرة ودبي وعمان، لما وفرته من تسهيلات وخدمات مكنت المستثمر الفضائي من الدخول إلى أثير الفضاء العربي. وحسب المؤلفة فإن التطورات المسجلة في هذا الميدان تشير إلى العديد من النتائج، السلبية والإيجابية، من ذلك أن القنوات الفضائية العربية ساهمت في التصدي لهجوم القنوات الفضائية الأجنبية وتأثيرها الثقافي والاجتماعي، كما تمكنت بعضها من كسر الهيمنة الغربية في مجال الأخبار ووفرت لجمهورها تغطية إخبارية وفق منظور عربي للأحداث والتطورات. وأتاح تزايد القنوات الفضائية العربية خيارات متعددة أمام المتلقي العربي، وساهم في تراجع سيطرة الإعلام الحكومي على عقله. وفي هذا الخضم استطاعت بعض القنوات الفضائية العربية تحقيق مستوى مشاهدة مرتفع، مما يعكس مستوى أدائها وهامش الحرية الذي تتمتع به. كذلك ساهم البث الفضائي العربي في رفع سقف الحرية الإعلامية، وشكل متنفساً للآراء الممنوعة والمستبعدة من الإعلام الرسمي العربي. وشكلت التعددية الفضائية العربية دعماً للمنافسة وعامل ارتقاء بمستوى العمل الإعلامي. ومع ذلك فللبث الفضائي العربي، سلبيات تتوقف المؤلفة عند بعضها؛ منها افتقاده التنسيق بين القنوات المختلفة، مما أفرز ظاهرة التكرار والتشابه في كثير من القنوات والبرامج، كما أدى عجز القنوات الفضائية العربية عن تلبية احتياجاتها المتزايدة من البرامج إلى الاستعانة بالمضامين الأجنبية. ومن المظاهر السلبية أيضاً أن هذه القنوات تعطي الأولوية للانتشار الجغرافي على حساب المضمون المقدم، بل قد ينغمس بعضها في تقليد واستنساخ القنوات الفضائية الغربية، علاوة على أمراض أخرى كسيطرة روح القطرية الضيقة، وهيمنة الجانب التجاري, والتبعية للسلطة، وعدم وضوح ملكية وأهداف العديد من القنوات الفضائية العربية! محمد ولد المنى ــــــــــــــــــــــــ الكتاب: التلفزيون الفضائي العربي المؤلفة: د. هبة شاهين الناشر: الدار المصرية اللبنانية تاريخ النشر: 2008