يبدو أن إدارة الرئيس بوش لن تغادر البيت الأبيض إلا بعد أن تراكم حولها مجموعة كبيرة من الكتب التي تنتقد أداءها, وفي هذا الإطار يأتي الكتاب الذي نعرضه هنا للصحفي الأميركي المخضرم "بوب وودورد" الذي اشتهر بكشفه العديد من خبايا النخب السياسية في واشنطن, لاسيما فضيحة "ووترجيت" التي أطاحت بالرئيس الأسبق "ريتشارد نيكسون". هذا الكتاب الأخير في سلسلة الكتب التي تفحص مسار السياسة الأميركية في عهد إدارة بوش يحمل عنوان "الحرب من الداخل: التاريخ السري للبيت الأبيض 2006- 2008", وفيه يميط اللثام عن قضايا ظلت إلى حد الآن حبيسة الغرف المغلقة والملفات السرية ملقياً الضوء على تناقضات إدارة بوش وصراعات أجنحتها المختلفة في التدبير لما بعد غزو العراق واحتواء ما بات يبدو فشلاً في تحقيق النصر الناجز. لكن الكاتب المعروف بمشاكسته لصناع القرار وغوصه في دهاليز السياسة بواشنطن, فضلاً عن علاقاته المتشعبة مع أجهزة الاستخبارات الأميركية, يكشف النقاب عن قيام بوش بإدار ة برنامج للتجسس على رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. لكن يبقى الأهم من ذلك الصراعات الداخلية في واشنطن بين القيادة العسكرية والنخبة المدنية ممثلة في مجلس الأمن القومي بشأن الطريقة الأمثل لإدارة الحرب في العراق بعدما ظهر التعثر الأميركي وازداد عدد القتلى في ساحات المعارك وتنامت أسئلة الرأي العام. فالكتاب الذي جاء في 447 صفحة يركز على قيادة الرئيس بوش لدفة الحكم في البيت الأبيض وأسلوبه الخاص في إدارة شؤون البلاد, معتمداً في ذلك على أكثر من 150 لقاءً أجراه مع فريق الأمن القومي الذي عمل مع بوش في السنتين التين يغطيهما الكتاب, فضلاً عن لقائه بعناصر نافذة داخل جهاز الاستخبارات وإجرائه حوارين مع الرئيس بوش نفسه. يبدأ الكتاب بتصويره لإدارة أميركية تمزقها التناقضات الداخلية الراجعة أساساً إلى الاختلافات الجوهرية في الرأي بين أركانها المدنيين والعسكريين. فبعدما أدرك بوش عقم استراتيجيته في العراق, وهو الإدراك الذي يقول "وودورد" أنه أتى متأخراً, قرر نقل زمام المبادرة من قائد القوات الأميركية في العراق وقتها الجنرال "جورج كيسي" ووزير الدفاع "رونالد رامسفيلد" إلى فريق مجلس الأمن القومي وتحديداً رئيسه "ستيفان هادلي" ونائبته "ميجان أوسوليفان" اللذين أشرفا على صياغة استراتيجية أميركية جديدة في العراق. فمع تدهور الوضع الأمني في العراق وظهور سيناريوهات خطيرة تنذر بتفكك العراق وتحلل نسيجه المجتمعي بسبب العنف الطائفي وحديث البعض عن إرهاصات أولية لحرب أهلية طاحنة تورط القوات الأميركية, بدأت الشكوك تحوم حول الاستراتيجية التي تبناها العسكريون والقائمة على تقليص القوات الأميركية والإسراع في نقل المسؤولية إلى العراقيين, هذه الاستراتيجية التي استمات قائد القوات الجنرال "كيسي" في الدفاع عنها حتى اللحظات الأخيرة. لكن بوش الذي كان يواجه الضغط الداخلي امتنع عن الخوض في تفاصيل تغيير الاستراتجيية العسكرية حتى بعد أن تبين خطلها. والسبب كما يوضح الكتاب راجع إلى تخوف بوش من انتخابات التجديد النصفي للكونجرس وعدم رغبته في خلق الانطباع لدى الرأي العام بأن الحرب في العراق فاشلة إلى حد يقتضي تغيير السياسة العامة. غير أن النتائج السلبية التي تجرعها الحزب الجمهوري وتقهقره أمام غريمه الديمقراطي في مجلسي الكونجرس عجل بالخطوات التي سيتخذها بوش, حيث كانت البداية مع وزير الدفاع "رامسفيلد" الذي أقيل من منصبه, ثم أعقبت ذلك مراجعة شاملة للاستراتيجية الأميركية أشرف عليها المدنيون في مجلس الأمن القومي. فقد ظلت المؤسسة العسكرية ممثلة في هيئة الأركان المشتركة متمسكة بخطتها الأولى القاضية بتقليص تدريجي للقوات الأميركية مع تدريب كثيف للجيش العراقي لتولي المسؤولية الأمنية فلي البلاد, وحتى بعد تفاقم الوضع الأمني حافظ الجنرا كيسي على تفاؤله ما أثار تساؤلات مستشاري بوش في مجلس الأمن القومي الذين اقترحوا, كحل للسيطرة على الانفلات الأمني, إرسال قوات إضافية إلى العراق. وبالطبع لم ترق الخطة الجديدة للعسكريين المتخوفين من ظهور بؤر صراع في العالم وعدم قدرتهم على التعامل معها بالنظر إلى النقص الكبير في القوة البشرية والانتشار مترامي الأطراف للقوات الأميركية في مناطق متفرقة من العالم. غير أن بوش الذي ساءت علاقته مع الجنرال "كيسي" فقد ثقته في قدرة القادة العسركية على تحقيق النصر فأوكل في أكتوبر 2006 إلى مستشاره في الأمن القومي "ستيفن هادلي" اقتراح خطة بديلة ليأتي التقييم الأولي لمجلس الأمن القومي دون أن يشارك فيه العسكريون. ولم يقتصر الخلاف في واشنطن بين المدنيين والعسكريين في تقييم الحرب الدائرة في العراق, بل انتقل إلى أروقة وزارة الخارجية التي لم تخف استياءها من "رامسفيلد" وتقييماته التي وصفتها رايس بأنها "تبالغ في الثقة بالنفس". الكتاب يوضخ أيضاً أن خطة الرفع في عديد القوات الأميركية في العراق لم تكن مسؤولة لوحدها عن تدني مستويات العنف وانحسار الحرب الطائفية التي كانت تعصف بالعراق, بل يرجع النجاح النسبي بعد تغيير الاستراتيجية العسكرية إلى جملة من العوامل يجملها "وودورد" في العمليات السرية التي قامت بها القوات الخاصة الأميركية وقرار رجل الدين الشيعي "مقتدى الصدر " تجميد أنشطة جيش المهدي”, ثم ظهور مجالس الصحوة في الأنبار وانقلابها على تنظيم "القاعدة". زهير الكساب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكتاب: الحرب من الداخل: التاريخ السري للبيت الأبيض 2006-2008 المؤلف: بوب وودورد الناشر: سيمون وشوستر تاريخ النشر: سبتمبر 2008