لم يشارك الرئيس بوش في مؤتمر الحزب "الجمهوري" الذي عُقد مؤخراً، لكنه حرص على إرسال خطاب قصير عبر الفيديو يعرب فيه عن تأييده للمرشح الجمهوري "جون ماكين". والحقيقة أن مؤتمر الحزب كان فرصة للرئيس بوش، الذي وصفته "نيويورك تايمز" بأنه "أقل الرؤساء الأميركيين شعبية في التاريخ المعاصر"، لتلقي بعض المشاعر الإيجابية والكلمات الطيبة التي نادراً ما يسمعها هذه الأيام. ويبدو أن بوش كان مسروراً أيضاً لأنه نجا من تركيز وسائل الإعلام بعد انشغالها بالحملة الانتخابية، بحيث استطاع تجاوز العاصفة التي أثيرت حوله في الشهر الماضي بسبب كتاب آخر عن الإدارة الأميركية يتهمها بتلفيق الأدلة وتزويرها لتبرير الحرب على العراق. ففي كتابه الجديد "طريقة العالم" يوجه الصحفي الفائز بجائزة بوليتزر الشهيرة "رون سوسكيند" تهمتين لإدارة الرئيس بوش، الأولى أنها تلقت معلومات أكيدة من الاستخبارات البريطانية (التي بدورها تلقت معلوماتها من رئيس الاستخبارات العراقي طاهر حبوش) بأن صدام لا يملك أية أسلحة للدمار الشامل. لكن إدارة بوش، وبخاصة تشيني وزملاءه من "المحافظين الجدد" أغفلوا تلك المعلومات لأنهم كانوا مصممين على شن الحرب. يقول "سوسكيند" إنه بعد غزو العراق والتأكد من صحة المعلومات التي نقلها "طاهر حبوش" للاستخبارات البريطانية قام الأميركيون بترتيب اتفاق سري معه يقضي باختفائه في إحدى دول جوار العراق مقابل حصوله على خمسة ملايين دولار. أما الاتهام الثاني المرتبط بالقضية فهو إقدام إدارة بوش بعدما تبين لها خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، وبضغط من ضرورة البحث عن دليل ما لتبرير قرار الحرب، بتوجيه أوامرها لوكالة الاستخبارات المركزية "سي. أي. إيه" بفبركة رسالة منسوبة إلى رئيس الاستخبارات العراقية "حبوش" تعود إلى تاريخ 2001. والرسالة المزورة موجهة إلى صدام حسين يشير فيها "حبوش" إلى زيارة "محمد عطا"، العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر، إلى العراق، بالإضافة إلى ذكر "الجهود التي بذلها لضرب الأهداف التي اتفقنا على تدميرها". وهكذا تم استغلال الرسالة الملفقة كدليل للربط بين صدام حسين وهجمات 11 سبتمبر، وهي الصلة التي ادعى كل من بوش ونائبه "تشيني" أنها كافية لتسويغ الحرب على العراق. وأكثر من ذلك أشارت الرسالة التي لفقتها الاستخبارات الأميركية إلى تسلم العراق عبر ليبيا وسوريا "شحنة من النيجر" في إحالة واضحة إلى اليورانيوم الذي زعم بوش في خطاب "حالة الاتحاد" لعام 2003 أن صدام حسين كان ينوي استخدامه لتطوير السلاح النووي. ومن الوجوه البارزة التي مارست الخداع ضد الشعب الأميركي كان السياسي العراقي المعروف "إياد علاوي" الذي نصبه الأميركيون كأول رئيس للوزراء في الحكومة الانتقالية التي أعقبت الغزو الأميركي وسقوط النظام السابق. ففيما كان "أحمد جلبي" يتعاطى مع وزارة الدفاع الأميركية من خلال تزويدها بالمعلومات العسكرية المضللة حول أسلحة الدمار الشامل ويحرض على غزو العراق كان "علاوي" يتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية "سي. أي. إيه" التي مولت معارضته للنظام السابق ودعمت خططه للإطاحة بصدام حسين، فضلاً عن تهييئها له لتسلم القيادة في العراق. وقد كان "علاوي" من سرّب الرسالة إلى الصحفي "كون كافلين" بجريدة "التلغراف" البريطانية المعروف بتأييده الشديد للحرب على العراق، حيث قام بنشرها في الصفحة الأولى في 14 ديسمبر 2003 تحت عنوان "الإرهابي المسؤول عن هجمات 11 سبتمبر دربه صدام حسين". وسرعان ما تلقف الرسالة صحفي آخر مساند للحرب هو "ويليام سفاير" بصحيفة "نيويورك تايمز" لتنتقل بعد ذلك إلى جميع وسائل الإعلام في العالم. لكن الأمر لم يتأخر طويلاً لكشف التلفيق وإجلاء الحقيقة حول الرسالة المزورة، حيث نشرت مجلة "نيوزويك" تحقيقاً خلص إلى أن الرسالة "على الأرجح ملفقة وتتناقض مع السجلات الأمنية في الولايات المتحدة التي تشير إلى أن محمد عطا كان مقيماً في بعض الفنادق والشقق الرخيصة بأميركا" في نفس الفترة التي تدعي فيها الرسالة أنه زار بغداد. هذا ولم يُعرف مصدر الرسالة ولا من قام بتلفيقها إلا بعد صدور كتاب "سوسكيند" الشهر الماضي الذي أرجع تلفيق العملية برمتها إلى البيت الأبيض والتنفيذ إلى "سي. أي. إيه". وفي مقال نشرته "واشنطن بوست" لكل من "دانا بريست" و"روبن رايت" يقول إن "علاوي وآخر يدعى بدران أمضيا جزءا من الأسبوع في مقر وكالة الاستخبارات المركزية، حيث عمل الرجلان مع الوكالة طيلة العقد الأخير للتحريض على انقلاب عسكري ضد صدام، لكن دون جدوى". وقد نشر هذا المقال في 11 ديسمبر 2003، وهو الوقت الذي كان فيه "علاوي" متواجداً في مقر وكالة الاستخبارات المركزية، إذ من المرجح أن يكون قد تلقى الرسالة المزورة من الوكالة، ثم قام بتسليمها إلى صحيفة "تيلغراف" البريطانية لتنشر في 14 ديسمبر. وهذه الاستنتاجات كلها تؤكد ما ذهب إليه "سوسكيند" في كتابه من أن مصدر الرسالة المفبركة هو الاستخبارات الأميركية. لكن "فيليب جيرالدي" كتب في مجلة "أميركان كونسورفاتيف" (المحافظ الأميركي) قائلاً: "إن مصدراً مطلعاً وموثوقاً به في الاستخبارات الأميركية أخبرني بأن ما كشف عنه سوسكيند في كتابه صحيح في مجمله عدا بعض التفاصيل". فقد أكد المصدر أن من كان وراء الرسالة الملفقة هو نائب الرئيس "ديك تشيني"، وأنه بسبب عدم ثقة "تشيني" بوكالة الاستخبارات المركزية: "ذهب إلى مكتب دوجلاس فيث المسؤول عن الخطط الخاصة في البنتاجون وطلب منه تنفيذ المهمة، لأنه خلافاً للوكالة لم يكن مفروضاً على البنتاجون أية قيود بتضليل المعلومات وخداع الرأي العام".