يدور في كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا حوار منذ بضع سنوات حول التوقيت الذي يمكن فيه سحب قوات كلتا الدولتين من العراق. فما من حكومة ترغب في الإبقاء على قواتها في مواجهة الخطر والإصابات إلى جانب التكلفة المالية الباهظة، ما لم تكن لهذه الحكومة مكاسب كبيرة تحققها من استمرار وجودها العسكري في الدولة المعينة. والملاحظ أن أفغانستان نفسها أصبحت جزءاً من هذا الحوار. فقد عاد خطر حركة "طالبان". وعلى رغم النجاح المقدر الذي أحرزته قوات الناتو –وخاصة في محافظة هلمند- إلا أن الحرب الأفغانية نفسها أضحت حرباً يحفها شيء من عدم اليقين، إن لم يكن غير مستبعد خسارتها، ما يعني بالنتيجة ضرورة الإسراع بنشر قوات إضافية هناك لتلافي تردي الوضع أو انتهاء الحرب إلى نهايات غير حميدة. ولعل هذه فرصة لي لاستغلها وألفت النظر إلى ما تحقق من مكاسب إيجابية في العراق. فلدى ظهوره أمام الكونجرس قبل خمسة أشهر من الآن، قال الجنرال بترايوس، قائد القوات الأميركية وغيرها من قوات التحالف الدولي في العراق، إن خطة زيادة عدد القوات قد آتت أُكلها هناك، إلا أن النتائج الإيجابية التي حققتها لا تزال هشة وقابلة للانتكاس. وفي الإفادة نفسها تحدث الجنرال بترايوس عن ضراوة المعارك الدائرة في محافظة البصرة. غير أن العنصر الحاسم فيما أحرز من تقدم أمني هناك، هو الانشقاق المفاجئ لرجل الشارع السُّني العادي عن تنظيم "القاعدة"، وانضمامه إلى صفوف القتال ضد التنظيم، جنباً إلى جنب مع الجنود الأميركيين. فعلى سبيل المثال كانت محافظة الأنبار من أشد ساحات القتال في العراق، بحكم كونها معقلاً منيعاً لقيادة تنظيم "القاعدة" سابقاً. أما اليوم فقد جرى تسليم هذه المحافظة للتو من قبل القوات الأميركية إلى القوات العراقية. وحتى الآن جرى تسليم 11 من بين 18 محافظة عراقية لقيادة الجيش الوطني العراقي. أما في محافظة البصرة فلم يتردد رئيس الوزراء نوري المالكي في شن حملة كاسرة على المليشيات الشيعية المتمردة في نهاية شهر مارس المنصرم، تمكنت من تحقيق نجاح باهر في مهامها بعد أسابيع معدودة فحسب. وإلى جانب ذلك ساعد ارتفاع أسعار النفط العالمي مؤخراً في ضخ المزيد من الأموال للخزانة العامة العراقية. غير أن الوجه السلبي لما يجري في العراق يظل قائماً بالطبع. ففي كل شهر يمر على بلاد الرافدين، يقع المئات من العراقيين قتلى وجرحى هجمات المتمردين التي تستهدف حياتهم بالرصاص والقنابل والعمليات الانتحارية. وفي المحافظات الواقعة شمالي بغداد، هناك مناطق جد خطيرة يشعر فيها السنيون بالهوة الفاصلة بينهم وبين الشيعة، بل بينهم وبين الحكومة الشيعية في بغداد. ولا ريب أن طمأنة هؤلاء المسلمين السُّنة تعد أمراً مهماً لإحراز أي تقدم ممكن في العملية السياسية في العراق. وربما يلزم أيضاً التنويه إلى أن مصير مدينة كركوك الغنية بالنفط لم يحدد بعد، على رغم سيطرة الأكراد عليها في الوقت الحالي. وفي الوقت نفسه لا يزال الحوار العام جارياً حول كيفية اقتسام عائدات الثروة النفطية على نطاق العراق ككل. وهذه هي خلاصة المعضلات التي لا يزال العراق يواجهها على رغم مضي خمس سنوات على سقوط نظام صدام حسين. وهي لاشك بحاجة لاتخاذ قرارات سياسية بشأنها، شريطة أن تكون عادلة وحازمة في آن معاً. كما لا ينبغي تجاهل أو استسهال مأساة الأربعة ملايين عراقي الذين أرغموا على الفرار من بيوتهم ومدنهم وقراهم، بينما لحق الدمار الهائل بمستقبلهم. وإنني لعلى يقين بأن العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني قد أثار أثناء زيارته الأخيرة للعراق، مسألة وجود ما يزيد على 500 ألف من اللاجئين العراقيين في أراضي بلاده الضيقة، وبتكلفة تزيد على المليار دولار مقتطعة من خزانة الحكومة الأردنية. هذا ولا تزال بغداد تعتمد بدرجة كبيرة على الـ159 ألف جندي أميركي المرابطين هناك. ففي وقت قريب جداً، في شهر مارس الماضي تحديداً، وجهت الحكومة العراقية نداءً عاجلاً للقوات الأميركية بالتوجه السريع نحو البصرة، ما أن واجهت القوات الوطنية العراقية مصاعب هناك، على رغم التقدم الذي تحرزه قوات الجيش الوطني، يوماً إثر الآخر. لكن مع ذلك يتلخص الوضع الحالي في مطالبة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي واشنطن بسحب جميع قواتها من بلاده بحلول نهاية عام 2011، وهو موعد قريب جداً من التاريخ الذي اقترحه المرشح الرئاسي "الديمقراطي" السيناتور باراك أوباما، ألا وهو شهر مايو من عام 2010. ويأتي هذا الموعد الذي حدده رئيس الوزراء العراقي للانسحاب مفاجئاً نوعاً ما، بقدر ما هو محرج للمرشح الرئاسي "الجمهوري" السيناتور جون ماكين، الذي طالما وجه الانتقادات إلى منافسه باراك أوباما، واصفاً إياه بالإفراط في التفاؤل وعدم المعرفة بمجريات الواقع العراقي على الأرض. يذكر أن جون ماكين قد اقترح عام 2013 موعداً لبدء النظر في انسحاب القوات الأميركية من العراق. أما المملكة المتحدة، فلها 4100 جندي في جنوبي العراق، يرابط نحو 900 منهم مع جنود الفرقة العراقية الرابعة عشرة في البصرة. أما بقية الجنود البريطانيين فيرابطون في مطار البصرة. وكانت بريطانيا قد فكرت في خفض قواتها من العدد المذكور إلى 2500 جندي قبل تنفيذ انسحابها الكامل من جنوبي العراق. ولكن تأجلت هذه الخطة مؤقتاً بسبب الهجمات المضادة التي شنها الجيش العراقي على المليشيات الشيعية المتمردة في شهر مارس الماضي. غير أن تكهنات شائعة في لندن الآن تقول إن بريطانيا تعتزم سحب جميع قواتها المرابطة في العراق بحلول الشهر الحالي من العام المقبل، فيما عدا بضع مئات من جنودها الذين سيبقون لمواصلة تدريب جنود الفرقة الرابعة عشرة العراقية. ولكن يلاحظ على سلوك رئيس الوزراء جوردون براون ميله إلى التحفظ الشديد إزاء العراق، أكثر مما توقع الكثير من أعضاء حزبه العمالي في البرلمان. وبقي علينا الآن أن نراقب أمراً واحداً فحسب: اعتزام الولايات المتحدة إقامة قواعد عسكرية دائمة لها في العراق، بهدف احتواء إيران وتوفير الضمانات الأمنية لإسرائيل. وهذا أمر حساس بالطبع، ويصعب الحصول فيه على معلومات أكيدة ملموسة. غير أن واشنطن سوف ترتكب خطأً فادحاً فيما لو حاولت تنفيذ مشروع عسكري كهذا. وعلينا أن نرحب برغبة العراق في تحديد موعد نهائي لانسحاب القوات الأميركية من أراضيه.