لم يكن اختيار عنوان القمة التي انعقدت في دمشق بتاريخ 4/9/2008 "حوار من أجل الاستقرار" مجرد عنوان يتداوله الإعلام، وإنما كان تعبيراً دقيقاً عن الهدف المشترك الذي تسعى إليه الدول المشاركة، وتأكيداً على مصداقية الدعوة السورية بشكل خاص، والعربية بشكل عام، إلى إيجاد حلول سياسية سلمية للنزاعات الدولية، وبخاصة للصراع العربي/ الصهيوني. وقد جاءت أهمية القمة الرباعية التي انعقدت في دمشق من كون القادة المشاركين يمثلون اتحادات دولية وتجمعات إقليمية كبرى. وعلى رغم أن زيارة الرئيس الفرنسي كانت مقررة قبل الأحداث الأخيرة والخطيرة في جورجيا -وما حملت من تداعيات على مسارات السياسة الدولية- إلا أن انعقاد هذه القمة في ظرف يحمل هذه الخصوصية جعل منها حدثاً غير عادي، ولاسيما لكونه جسد موقفاً عقلانياً هادئاً في لحظة مضطربة تسيطر فيها الانفعالات على الإدارة الأميركية التي تستعد للرحيل تاركة خلفها آثاراً كارثية لسياساتها العدوانية المتخبطة التي جعلت بداية القرن الحادي العشرين أسوأ بكثير من بداية القرن العشرين التي نجمت عنها حربان عالميتان مدمرتان لم تكد البشرية تبرأ من جراحهما العميقة حتى ظهرت القوة الأميركية الصاعدة متخمة بمشاعر الصلف والغرور التي حفزت الولايات المتحدة على التخطيط لالتهام العالم والإمساك بمصير البشرية بقبضة صارمة. ومع أننا ندرك أن تغيير رئيس أو إدارة في الولايات المتحدة لا يعني تغييراً جذرياً في السياسات الاستراتيجية في دولة مؤسسات ضخمة مثل الولايات المتحدة، إلا أننا نجد في المرحلة الفاصلة بين عهدين فسحة لظهور حقائق جديدة كان يتردد العارفون في أميركا عن إعلانها، وهذا ما يفسر وفرة الكتابات التي ظهرت مؤخراً في الولايات المتحدة تفضح أكاذيب الرواية الأميركية لأحداث 11 سبتمبر في ذكراها السابعة، وتنتقد إدارة الرئيس بوش، وتحملها مسؤولية إشعال الحروب المفتعلة في العالم، ومسؤولية تصاعد حجم الإرهاب، في الوقت الذي تكرس فيه الولايات المتحدة كل طاقاتها لمكافحته، لكن الإرهاب الدولي المنظم الذي يستهدف الشعوب، وتتناقل وكالات الأنباء كل لحظة أخباره المأساوية التي تلاحقنا عبر أجهزة الهاتف النقال، عن مقتل العشرات في فلسطين والمئات في العراق وأفغانستان والصومال، وفي كل المناطق المشتعلة، بات أشد خطراً من الإرهاب الذي تقوده جماعات متطرفة بالتأكيد تحصل على دعم لوجستي ومادي من الذين باتت لهم مصلحة حيوية في استمرار الإرهاب كي يجدوا المبررات للاستمرار في حروبهم، وتمكين مشاريعهم التوسعية التي انخرطت فيها قوى مستسلمة فقدت الرؤية الدقيقة لمصالحها. وبما أن العالم غرق في حملة تضليل وأكاذيب كبيرة ضاعت معها الحقائق من خفايا جريمة سبتمبر إلى مبررات الحرب على أفغانستان ثم العراق، فإن الفترة الراهنة الفاصلة بين عهدين في الولايات المتحدة وبين عهدين في إسرائيل (مع اقتراب نهاية أولمرت) قد تمنح المتكتمين على الأسرار فرصة من الشفافية التي افتقدتها السياسة الدولية. وقد يشجع على ذلك ما حدث من اختراق مدوٍّ لجدار الصمت الدولي بعد أحداث جورجيا، فقد كان أصدقاؤنا الروس يراقبون ما يحدث حولهم في القوقاز بصمت وروية لكنهم بالتأكيد كانوا يضمرون رفضاً لتحويل دور روسيا إلى كومبارس في مسرح السياسة الدولية. وكان أصدقاؤنا في الصين منشغلين بالتقدم الصناعي والنهوض الاقتصادي الضخم الذي حققوه عن الحضور السياسي الدولي الذي تستحقه دولة عظمى، ولكن الجميع كانوا يتجنبون الصدام مع السياسة الحمقاء التي انتهجتها الإدارة الأميركية التي انفردت في رسم السياسة الدولية إلى حد تهميش دور أوروبا الذي كنا وما نزال نطالب به لاعتقادنا أن أوروبا هي الجارة الأقرب، ولكون المصالح الأوروبية الأمنية والاقتصادية والاجتماعية عميقة التشابك مع المصالح العربية التي تشكل أولوية لسوريا التي لم تفكر يوماً بمصالحها وحدها، فهي حاملة للمشروع القومي العربي، ولم تسعَ قط إلى خلاص فردي، ولو أنها كانت يوماً تفكر بخلاص فردي لما عانت ما عانته عبر العقود الماضية، فقد جاءتها فرص كبيرة للسير في تيارات الحلول الجزئية والانفرادية من أيام كامب ديفيد ثم مؤتمر مدريد وما تلاه من جولات تفاوضية، مقابل الانضمام إلى جوقة الصهيونية المستغربة والمستعربة، لكن سوريا كانت وما تزال تصر على أن يكون السلام المرتقب شاملاً وعادلاً، لا يترك أحداً من العرب وحيداً في ساحة الصراع، ولا يفرط بحق من حقوق الأمة. وهذا ما كان جوهر القمة الرباعية التي حرصت على الحضور العربي وعلى حضور تركيا ذات المكانة الإقليمية المهمة للعرب ولأوروبا، ولم يفاجأ أحد بتركيز سوريا على شمولية السلام المنشود، فهذا الموقف من أولويات الثوابت السورية. كما لم يفاجأ أحد بوضع قضية دارفور على جدول أعمال القمة لأن سوريا معنية بكل القضايا العربية، وأما ما يتعلق بمتابعة مفاوضات السلام فقد أكدت سوريا على أهمية الرعاية الأميركية، لكن ليس في ظل هذه الإدارة التي لم تبدِ أي اهتمام بمسيرة السلام، وكذلك كان التأكيد على دور فرنسا وروسيا وتركيا. ولئن كان تطور العلاقات بين سوريا وفرنسا قد بدا سريعاً وأخذ الطابع العملي فسِرُّ ذلك أن مراجعة مهمة لدور سوريا أكدت أن المواقف والأحكام المسبقة لم تكن نتاج دراسة متأنية، وبدا واضحاً للجميع أن سوريا حريصة على استقرار المنطقة، وأنها تملك مصداقية في سياساتها، ولا تقبل مساومات على الحقوق، ولا تقدم ما هو مجاني على حساب المصالح الوطنية والقومية، فضلاً عن كونها تجسد دعامة أساسية في بناء مستقبل المنطقة. لقد وقفت سوريا مواقف مكلفة بدوافع مبدئية، معتمدة على حالة التكاتف الوطني، وعلى التماهي والتطابق بين الموقف الشعبي والموقف الرسمي مثل الموقف من الغزو الأميركي للعراق، والموقف الثابت من المقاومة الفلسطينية، وفي دعمها اللامحدود والمستمر للأشقاء في لبنان وقد بلغ ذروته أيام حرب "الوعد الصادق". وكذلك كان التماهي في موقف سوريا في علاقتها الودية الوفية مع الأصدقاء في إيران، وقد صمدت سوريا أمام التهديدات المتصاعدة التي أنذرتها عدة مرات، وكان الإيمان بقدرة الشعب على المقاومة والصمود، وإدراك خطر أي تنازل مبدئي على مصير ومستقبل الأمة يدفعان سوريا لمزيد من الصبر والثبات. وكان لابد من أن يصح الصحيح وأن تنتصر الإرادة الصادقة، فقد نجحت سوريا في إقامة القمة العربية رغم كل محاولات إفشالها، وحضرتها كل الدول العربية وتحقق فيها حد مقبول من التضامن المفقود. ثم تمكنت بتعاون وثيق مع الأشقاء من إيجاد حلول للأزمة اللبنانية أثبتت فيها سوريا مصداقيتها في حرصها على سلامة لبنان ووحدته واستقلاله واستقراره وعمق انتمائه لأمته العربية، وعلى استمرار مقاومته الوطنية الشريفة التي شكلت ضياء مبهراً في العتمة العربية المظلمة، وبثت أملاً أمام مستقبل الأمة بعد أن كاد اليائسون يرفعون راية الهزيمة والاستسلام، ولم يكن يشك في مصداقية موقف سوريا نحو لبنان سوى نفر ضئيل من الذين ظنوا أن المشروع الصهيوني- الأميركي في المنطقة قدَرٌ لا مفر منه، وأن الأمة لا تملك غير الرضوخ له. لكن سوريا كانت تدرك أن هذا المشروع لا أمل له في الحياة في أرضنا ومنطقتنا، ولم تكن العلاقة الاستراتيجية التي متنتها سوريا مع تركيا خارجة عن سياق هدف واضح هو أن يكون مستقبل هذه المنطقة بيد شعوبها الأصليين. وفي ذات السياق كانت العلاقة مع إيران، فشعوب المنطقة ترفض أن تدار أمورها ومصالحها من وراء الأطلسي، لكننا جميعاً لا نرفض التقاء المصالح الدولية على أسس متكافئة، ولهذا جاءت تلبية سوريا للدعوة الفرنسية للمشاركة في "الاتحاد من أجل المتوسط"، مقاربة لرؤية مصالح مشتركة تضمن العيش بسلام واستقرار للجميع، والوسيلة الناجعة الوحيدة لتحقيق هذا الاستقرار هي الحوار، وهو لا يعني أن يقنع أحدنا الآخر بأفكاره وإنما أن يفهم أحدنا الآخر، وأن يدرك حدود مصالحه، وأن يجد نقاط التلاقي وهي أكثر بكثير من نقاط الاختلاف، وأن يكون العمل السياسي تعزيزاً لنقاط التوافق، وفي ذلك مسعى نبيل لتجنيب البشرية مزيداً من الويلات التي تحقق الدمار ولكنها لا تحقق أي انتصار، وحسب العالم أن يرى وحشية الحصار المفروض على غزة، وفشل إسرائيل في تحقيق أي هدف منه سوى التأكيد على وحشية القوة التي تنزع عن شعب إسرائيل أية صفة حضارية.