تحت عنوان "موسكو – واشنطن: عام ساخن وربما حاسم!"، جاءت مقالة كاتب هذه السطور على صفحات "وجهات نظر" يوم الخميس 24 يناير الماضي. وكانت الفكرة الرئيسية لهذه المقالة هي أن روسيا العائدة بقوة إلى الساحة الدولية مستعيدة ذاكرة القوة العظمى إنما تسعى إلى تغيير نمط الشراكة مع الولايات المتحدة، والغرب عموماً. فهذا النمط الذي ارتبط بظروف انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وأقيم على أساس أن روسيا هي الطرف المهزوم في الحرب الباردة الدولية، لم يعد يناسب موسكو بعد أن تجاوزت محنتها أو كادت. وتوقعت المقالة "أن يصبح العالم أكثر توتراً دون أن يشهد بالضرورة حرباً باردة جديدة". وإذ يصل هذا التوتر الآن إلى نقطة مرتفعة بعد حرب روسية -جورجية استمرت 14 يوماً، وتحرك موسكو لدعم استقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية على نحو يغري الكثير من المراقبين بالحديث عن حرب باردة جديدة، لا يبدو حتى الآن أن لهذه الحرب أساساً قوياً يمكن أن تنهض عليه. فما أبعد العالم الآن عما كان عليه عقب الحرب العالمية الثانية، قبل أكثر من ستة عقود، وحتى ثمانينيات القرن الماضي. وما أكثرها أوجه الاختلاف بين العلاقة الروسية -الأميركية اليوم والصراع بين موسكو وواشنطن في مرحلة الحرب الباردة. لذلك لا يمكن تخيل انتقال سور برلين مثلاً إلى الحدود بين جورجيا وأوسيتيا الجنوبية أو أبخازيا. كما يصعب تصور أن تكون أزمة الدرع الصاروخية الأميركية مماثلة لمشكلة ميناء دانزنغ في بولندا، أو أن تتحول أزمة البرنامج النووي الإيراني مثلاً في الفترة القادمة إلى مواجهة على نمط أزمة الصواريخ الكوبية المشهورة في ذروة الحرب الباردة. وفي هذا السياق، يمكن تحديد الفرق الجوهري بين الصراع الجديد أو الراهن والحرب الباردة القديمة في ثلاثة عناصر بنيوية رئيسية. أول هذه العناصر يتعلق بطابع الصراع نفسه. فالصراع الراهن يدور حول تغيير قواعد معينة للعبة الدولية، في حين كان الصراع في مرحلة الحرب الباردة يرمي إلى إنهاء اللعبة بشكل حاسم. فكل ما تريده موسكو الآن هو تغيير قواعد الشراكة مع أميركا أو الغرب عموماً، فيما تحاول واشنطن وبعض العواصم الأوروبية الإبقاء على هذه القواعد وتكريسها. فلا روسيا تبغي الحاق هزيمة بالغرب، ولا هذا يتطلع إلى تحقيق انتصار حاسم عليها، بخلاف ما حدث في مرحلة الحرب الباردة حين كان الصراع "صفرياً"، أي من النوع الذي لابد أن ينتهي بانتصار كامل وهزيمة تامة بشكل ما. وهذا هو ما حدث بالفعل، في نهاية ثمانينيات القرن الماضي حين انهار الاتحاد السوفييتي ونظامه الاشتراكي ونمط حياته ومعسكره السياسي -الأيديولوجي، على نحو اعتبره بعض المتعجلين نهاية للتاريخ، قبل أن يثبت مجدداً أن التاريخ لا نهاية له. ولا شيء من هذا الصراع "الصفري" يمكن أن نستدل عليه في المعركة الراهنة بين روسيا وأميركا. وينقلنا ذلك إلى العنصر الرئيسي الثاني في الفرق الجوهري بين الصراع الراهن والحرب الباردة القديمة. فلم يعد الصراع الآن بين "عالمين" انقسم بينهما المجتمع الدولي لأكثر من نصف قرن بعد الحرب العالمية الثانية، رغم محاولة كثير من دول العالم اتباع سياسة غير منحازة بينهما على نحو أدى إلى شيوع تعبير "العالم الثالث"، إلى جانب العالم الأول الرأسمالي بقيادة واشنطن والعالم الثاني الاشتراكي -الشيوعي بقيادة موسكو. فقد اقترنت نهاية الحرب الباردة وانهيار "العالم الثاني" باختراقات في مجال العولمة على نحو يجعل الحديث عن عالم واحد واقعاً معاشاً، وليس مجرد شعار أو عنوان بَّراق كثر ترديده منذ أن شاعت عبارة "العالم قرية صغيرة". وفي هذا العالم الجديد يصعب تصور بناء تحالفين أو تكتلين كبيرين، أو حتى متفاوتين في حجمهما، على نمط المعسكرين اللذين دارت الحرب الباردة بينهما حوالي نصف قرن. فالدول الأوروبية التي أزعجها تغلغل القوات الروسية في أراضي جورجيا، ثم اعتراف موسكو باستقلال إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، ليست متطابقة في مواقفها. وكذلك الحال بالنسبة للدول التي لم يزعجها ما فعلته روسيا في القوقاز؛ فهي تتفاوت في مواقفها بين التفهم والتعاطف لأسباب تعود إلى عدم الرضا عن السياسة الأميركية أكثر مما ترجع إلى قبول كل ما تسعى إليه السياسة الروسية. في العالم الراهن هناك من السيولة ما يحول دون حدوث انقسامات هيكلية كبرى على النمط الذي اتسمت به مرحلة الحرب الباردة. وإذا كان من انقسام هيكلي في هذا العالم فهو بين شمال وجنوب بسبب التفاوت الشديد في مستوى التطور. وقد أصبحت روسيا جزءاً من الشمال، رغم عدم اندماجها عضوياً في تفاعلاته الاقتصادية الكبرى وضعف إسهامها في المعرفة التكنولوجية. وهذا الوضع الذي يمتزج فيه الانتماء إلى قمة العالم من ناحية وعدم بلوغ المستوى الذي يجعل روسيا شريكاً فاعلاً في إدارة الاقتصاد العالمي من ناحية أخرى، هو في حد ذاته أحد العوامل التي تضع سقفاً للصراع الراهن لن يتجاوزه على الأرجح. فالقيادة الروسية الحالية (ثنائي بوتين – ميدفيديف)، والتي يتبين يوماً بعد يوم أنها تمتلك حكمة لا بأس بها، تعرف أن قوة الدول ومكانتها في هذا العصر لا ترتبط بالسلاح الذي تمتلك موسكو الكثير منه، وإنما تتوقف على متانة اقتصادها وما يتوفر لها من مقومات لاختراق الأسواق العالمية من ناحية، وعلى قدراتها العلمية والمعرفية والتكنولوجيا من ناحية ثانية، وعلى حيوية مجتمعها وقدرته على المشاركة في بناء ركائز التقدم من ناحية ثالثة. وتدرك القيادة الروسية نقاط الضعف في هذه المجالات الثلاثة، الأمر الذي يدفعها إلى إعطاء أولوية قصوى لتحديث الاقتصاد والمجتمع وخلق الظروف الملائمة لدعم البحث العلمي والاختراع والابتكار. فمازال أمام الاقتصاد الروسي شوط طويل لابد من قطعه، رغم التحسن الكبير الذي حدث فيه خلال السنوات الأخيرة مقارنة بما كان عليه في سنوات المحنة عقب الانهيار السوفييتي الكبير. وكثيرة هي الاختلالات التي يعاني منها المجتمع الروسي جراء التحولات الاجتماعية العميقة والمتسارعة التي أعقبت ذلك الانهيار وأدت إلى انقسام طبقي هائل، وأطلقت نزعات عنفية متنوعة ينطوي بعضها على عنصرية خطيرة تجاه "الغرباء" الذين احتلوا سوق العمل. أما البحث العلمي، فمازال إخراجه من التدهور العميق الذي هبط بنصيب روسيا من براءات الاختراع إلى أقل من 1? على المستوى العالمي، يقتضي جهداً كبيراً وعملاً دؤوباً. وعندما تكون هناك قيادة حكيمة تدرك نقاط الضعف في دولتها، وتعرف أهمية معالجتها، يصبح انجرارها إلى مغامرات كبرى مستبعداً. وبأي نوع من الحسابات، يبدو تطور الصراع الراهن في اتجاه حرب باردة جديدة، نوعاً من المغامرة بالنسبة لروسيا. فإذا لم يكن طابع الصراع نفسه، ولا حالة العالم الذي يدور فيه، من النوع الذي يجعل الحرب الباردة ممكنة، يصبح الحديث عنها الآن مجازياً أكثر منه واقعياً حتى حين يصدر عن بعض الوزراء الأوروبيين حديثي العهد. ومما لا يخلو من مغزى، على هذا الصعيد، أن يكون الأميركيون والروس هم الأكثر حذراً في استخدام تعبير الحرب الباردة، حتى بمعناه المجازي. فقد بادرت وزيرة الخارجية الأميركية رايس إلى استبعاد احتمال العودة إلى هذه الحرب. وكان ذلك في ذروة العملية العسكرية التي شنها الجيش الروسي في داخل الأراضي الجورجية. ويبقى بعد ذلك العنصر الثالث الذي يصنع مع العنصرين السابقين الفرق الجوهري بين الصراع الراهن والحرب الباردة القديمة، وهو مجال هذا الصراع وأبعاده الجغرافية. فنحن الآن إزاء صراع أوروبي في المقام الأول وليس صراعاً عالمياً بخلاف ما كانت عليه الحرب الباردة التي انتشرت في أرجاء البسيطة وأنتجت صراعات وحروباً بالوكالة في كل مكان من آسيا وأفريقيا إلى أميركا اللاتينية. ولعل أكثر ما آثار انزعاج الدول التي تصدت سياسياً للعملية العسكرية الروسية داخل أراضي جورجيا، ودعم موسكو انفصال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، هو ما اعتبرته محاولة لإعادة رسم خريطة أوروبا الجيو -سياسية انطلاقاً من منطقة القوقاز. ولما كان دعم هذه الدول نفسها استقلال كوسوفو قبل شهور قد آثار انزعاج روسيا للسبب نفسه، لكن انطلاقاً من منطقة البلقان، فهذا يعني أننا إزاء صراع أوروبي لا ينطوي على إمكانات الامتداد إلى مناطق أخرى في العالم إلا إذا تجاوز السقف الذي تحرص كل من موسكو وواشنطن على البقاء تحته حتى الآن.