يبدو أن الصحافة المكتوبة تمر بأزمة، لا سيما في ظل الخسائر المادية الكبيرة والتسريحات المتنامية للصحفيين، ما جعل حالة من الارتباك تخيم على الجسم الصحفي ويسود الترقب والانتظار؛ وإذا كان من السهل الإشارة بأصابع الاتهام إلى الإنترنت باعتبارها المسؤولة عن محنة الصحافة المكتوبة، إلا أن التكنولوجيا المدمرة نفسها التي أحدثت كل هذا الارتباك في الصحافة هي من دشنت في الوقت نفسه مرحلة جديدة تعتبر الأكثر إبداعاً في تاريخ الصحافة؛ ولو أمكن لنا تشبيه هذه المرحلة بالنهضة الأوروبية، لكانت الإنترنت بمثابة مدينة "فلورنس" بعدما تحولت إلى مكان تلتقي فيه التجارب المختلفة والجديدة وتنصهر فيه وسائل الإعلام التقليدية-الصحافة والإذاعة والتلفزيون- في إطار ديناميكية واحدة ومكان ديمقراطي متاح للجميع؛ لكن الأبعاد الإعلامية المتعددة للصحافة الرقمية ليست سوى جزء بسيط من الصورة، ذلك أن أهم خصائص الصحافة الجديدة هي الطريقة التي تشرك بها القراء كمنخرطين فاعلين في جميع مراحل إنتاج المحتوى. ولو نظرنا إلى تجربتنا الخاصة في "بيزنيس ويك" -حيث أعمل كمدير تحرير- لوجدنا أن الصحافة الجديدة تحولت على امتداد السنة الماضية إلى هاجس وأصبحت محط تركيزنا الأساسي؛ والأمر يتعلق هنا بإعادة اكتشاف الصحافة باعتبارها عملية تشرك القارئ في المرحلة الأولى، ثم تشجعه على عرض أفكاره، ليتم نقلها بصورة احترافية إلى عموم القراء وتوسيع ردود الفعل، أو الحوار المترتب عنها؛ ومن المهم التنبيه هنا أن ردود الفعل لا تقتصر على بريد القراء كما هو متعارف عليه، بل هو حوار متعدد الجوانب يفتح بين الكتاب المحترفين وبين الجمهور. وبالرجوع إلى مطلع الستينيات من القرن الماضي نجد "توم ولف" وكتابا آخرين طوروا ما بات يعرف بـ"الصحافة الجديدة" التي أدمجت تقنيات الرواية والسرد في كتابة الأخبار والمنوعات؛ أما اليوم فإن الإشراك المباشر للقارئ يسير عكس "الصحافة الجديدة" التي طُورت في الستينيات والمرتكزة على الذات وعلى تقنيات السرد، بحيث يمكن تسميتها بـ"ما بعد الصحافة الجديدة". وتقوم هذه الصحافة الجديدة، أو ما بعد الجديدة، على إشراك القارئ والتعامل مع آرائه ومعتقداته باحترام وتقدير والموازنة بين ذكاء العامة للوصول إلى نتيجة يقبلها الجميع؛ وفي هذا الإطار تنحى المحتوى عن عرشه القديم ليحل السياق محله، لا سيما في عالم تهيمن عليه ثقافة التسليع وتطارد فيه الأخبار والآراء الهائلة عدداً محدوداً من القراء لتصبح علاقة الولاء الجديدة التي تنسجها الصحافة الجديدة مع القارئ مهمة للغاية لانصهارها مع احتياجات المجتمع وتناولها لاهتماماته المشتركة؛ غير أن ذلك لا يعني أن الأمر متيسر وسهل التحقيق، فعلى مدى الشهور التسعة الماضية انخرطنا في حملة واسعة لتشجيع القراء على إبداء ملاحظاتهم حول مقالاتنا، ودفعهم إلى المشاركة بأفكارهم وبعثها إلينا، بل وحثهم على كتابة مقالات خاصة بهم تعبر عن آرائهم وانشغالاتهم على أن ينخرط الصحفيون في حوار مباشر مع القراء، وباختصار نسعى إلى تحويل القراء إلى مواطنين صحفيين، وبعد كل هذه الجهود تمكنا من إصدار عدد كامل من إنتاج القراء بعنوان "مشاكل العمل"، فضلا عن نسخة إلكترونية ستفعل هذا الأسبوع. وستعطى للقراء فرصة اختيار مواضيع الكتابة ووضع العنوانين، بل واختيار القصاصات والتحليلات التي يريدونها من الإنترنت لإدخالها في موقع المجلة على الشبكة؛ فما الذي تعلمناه من هذه التجربة؟ الدرس الأول المستخلص هو أن الصحافة الجديدة تتطلب جهدا أكبر مما يستدعيه العمل التقليدي المقتصر على الكتابة والتحرير، وعلى سبيل المثال تطلب منا التهيئة لعدد "مشاكل العمل" التفاعل مع أكثر من 10 الآف قارئ، حيث تطلب العمل مضاعفة الجهد التقليدي، كما أن حث القراء على المشاركة لم يكن سهلا، ناهيك عن مراجعة الردود وتنظيمها؛ ولا ننسى أيضا أن التعاطي بين المحرر والقارئ يصبح أطول في حالة التعامل مع الهواة؛ ومع أننا استغرقنا أربعة أشهر من الوقت لإصدار العدد الجديد لم يكن من السهل الحفاظ على تدفق المشاركات، فالقراء غالبا ما لا يتوفر لديهم الوقت الكافي للبحث عن مواضيع والكتابة بعمق حولها، أو تحليل قضايا مهمة؛ الأكثر من ذلك أنه من الصعب دفع القارئ إلى الكتابة بموضوعية وبنوع من الحياد عندما يتعلق الأمر بقضايا شخصية مثل العمل والمشوار المهني. ولأن الصحافة التشاركية تعمل بشكل أفضل عندما تكون المواضيع المطروحة للكتابة قريبة من القارئ وبالتالي تستحث قريحته وتتيح له المجال للتعبير، فإنه من غير الواقعي التطرق إلى قضايا تستدعي رأياً محترفاً مثل أزمة الرهن العقاري واقتراح الحلول لمشكلة القروض عالية الخطورة؛ ولكن مع ذلك سعدت كثيراً لتجربة إشراك القارئ، كما استفدت من جمهور ذكي ومتعطش للمعرفة؛ فقد أدركنا أن الجمهور قادر على الكتابة ومستعد لطرح أفكاره واقتراحاته، والأكثر من ذلك أن التعاطي مع القراء على هذا النحو غير المسبوق والتعامل معهم كصحفيين جعلنا ندرك بأن القارئ يشبهنا، نحن الصحفيون، إلى حد كبير في سعيه إلى الرقي بالحياة في المجتمع من خلال تسليط الأضواء الكاشفة على قضاياه الشائكة والمشاركة في اقتراح ما يناسبها من حلول. جون بايرن مدير تحرير مجلة "بيزنيس ويك" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"