كان رمضان شهراً من بين الشهور، فأصبح اليوم لدى العرب شهراً من الشهور. سمعتُ هذه العبارة من أحد رجال الكويت من كبار السن في مقابلة إذاعية قبل سنوات، وللأسف أنها تزداد تحققاً على أرض الواقع عاماً بعد عام. وقبل فترة كتب الأديب الفاضل غازي القصيبي عن "وداع رمضان"، مبيناً أن العرب المسلمين لا يستقبلون الشهر الفضيل بقدر ما هم يودعون فضائله وسجاياه التعبدية من خلال ما يُعرض من برامج فنية مبتذلة ومتاجرة بالدين على مختلف القنوات الفضائية. ولقد أصاب هذا الأديب قلب الحقيقة فيما يتصل بتصرفات المسلمين في رمضان، ليس فقط من خلال المسلسلات الفنية الرمضانية سواء كانت تاريخية أو دينية، بل ومن خلال سلوكيات يتشدق بها المسلمون في الكتابة والمقابلات الإذاعية والتلفزيونية، لكنهم يمارسون نقيضها في الحياة العملية. وإذا ما تركنا المسلسلات الفنية جانباً ونظرنا إلى واقع التعامل مع هذا الشهر الكريم لوجدنا التالي: 1- زيادة جرعة التظاهر بالورع والتدين في الصحافة، حيث تتكرر الأحاديث والموضوعات الدينية وكأن المسلمين يكتشفون رمضان من جديد. 2- يزداد عدد مرتادي المساجد، خاصة في ليلة السابع والعشرين من رمضان حيث يعتقد المسلمون بأنها ليلة القدر التي تُستجاب فيها الدعوات. ولكن تبدأ أعداد المصلين في التناقص مع الليلة الثامنة والعشرين، حتى يتلاشى التجمع مع نهاية رمضان، ثم لا تجد حجزاً على أي طائرة في العيد في البلاد التي تخلو من الملاهي وغيرها (اللهم إني صائم) مثل الكويت والسعودية. ولا زلت أذكر ما قاله أحد خطباء صلاة العيد منذ زمن مخاطباً الناس بالقول "اعلموا، أن رب رمضان هو نفسه رب ما بعد رمضان"... لكن من يسمع؟ 3- كثرة الحوادث المرورية في رمضان حيث يتسابق الشباب للوصول إلى المنزل قبل أذان المغرب بعد أن قضوا سحابة يومهم في التجول في الشوارع بدون هدف. 4- برغم كثرة الإقبال على قراءة القرآن في رمضان، وهو أمر حسن، إلا أن معظم المسلمين لا ينتهزون الفرصة لقراءة الكتب الفكرية المفيدة للعقل، بل إن كل هدفهم أن يختموا القرآن أكثر من مرة ولو بدون تدبر وفهم كما أمرنا الله تعالى. 5- كثرة الموظفين الذين يأخذون إجازاتهم في رمضان بحجة العبادة، وينسون حقيقة أن رمضان عبادة وعمل. 6- في السنوات التي يقع فيها شهر رمضان أثناء الدراسة، يغدو من الطبيعي تغيُّب الطلبة عن الدروس، خاصة في العشر الأواخر من الشهر. 7- ما نسمعه من حكمة من أن الصوم يحث المسلم على العمل، لا نجد له تطبيقاً على أرض الواقع، حيث يتكاسل الموظفون عن القيام بواجباتهم بحجة الصوم والتعب. والدول بدورها لا تقصر وتساعدهم على ذلك بتقصير فترة العمل! 8- ما نشاهده في الأسواق التجارية من تبرُّج في الليل ينسف كل "الستر" الذي نراه في النهار، وكأن للفتاة والمرأة المسلمة شخصيتين مختلفتين. 9- المأساة الحقيقية في اعتقادي التناقض في أقوال الأطباء الذين ينصحون بكثرة شرب الماء في أيام الحر، فإذا ما هلّ رمضان "ابتلعوا" كل ذلك وأخذوا يحثون حتى المرضى على الصوم بقولهم لمرضى السكر والقلب والضغط، "حاول وشوف نفسك" وإذا ما قدرت افطرْ!! 10- المتاجرة بالدين من أكبر المصائب التي تحل على رمضان، شهر العبادة حيث لا يتردد المتدينون الذين يقدمون البرامج الدينية في قبض عشرات الآلاف من الدولارات ثمن تقديمهم "الدين"، ولا أذكر فقيهاً قد تعرض للموضوع، ما إذا كان العمل من أجل الدين، كما يزعمون، حلالاً أم حراماً. لذلك يجب أن نردد مع الأديب الألمعي غازي القصيبي... "وداعاً رمضان".