تحت عنوان "حوار من أجل الاستقرار" عقدت في دمشق في الرابع من الشهر الجاري قمة رباعية بين كلٍّ من أمير قطر والرئيس السوري والرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء التركي. تبدو بنية القمة غريبة إلى حد بعيد من حيث الأطراف المشاركة فيها، ولكنها السياسة التي تقوم دوماً على المصالح ولا شيء سواها. ولا يمكن الادعاء بأن القمة قد أفضت إلى نتائج محددة، غير أن ما ألقي فيها من كلمات، وما أدلى به المشاركون فيها من تصريحات يمثل مادة خصبة لاستخلاص بعض الدلالات المفيدة في فهم ما يجري في منطقة الشرق الأوسط. وفي تناول هذه الدلالات يركز هذا المقال بصفة خاصة على ما يمكن تسميته بجدل العالمي والإقليمي. لقد شهدت أدبيات العلاقات الدولية حواراً علمياً واسعاً حول "أولوية العالمي على الإقليمي" أو العكس في التأثير على مجريات التطور في إقليم ما، وذلك بمعنى التساؤل عن أي العوامل تكون له الغلبة في تقرير مصير التطورات في هذا الإقليم: أتكون العوامل النابعة من بيئته العالمية، وهي عوامل معززة بطبيعة الحال بعناصر قوة ظاهرة ومتفوقة تمتلكها القوى القيادية في النظام العالمي؟ أم أن العوامل النابعة من الإقليم نفسه هي صاحبة اليد العليا في هذا الصدد؟ أم أن الأمر وسط بين الحالتين؟ ينتمي كاتب هذه السطور إلى المدرسة التي تؤمن بأن العوامل العالمية لا يمكن أن يكون بمقدورها وحدها تحديد مصير التطورات في إقليم ما مهما بلغت قوة القوى القيادية في النظام العالمي واشتدت قبضتها، وأن العوامل الإقليمية تكون لها القدرة في كثير من الأحيان على تحدي إرادة هذه القوى، بل وإبطالها، خاصة إذا امتلكت الأطراف الإقليمية الرؤية السليمة، والقدرة على استغلال ما بيدها من أوراق، وعملت على بناء شبكة تحالفات خارجية فعالة. والأمثلة على هذا لا تعد ولا تحصى، فلو لم يكن الأمر كذلك لما نجحت حركات التحرر الوطني في الوطن العربي وغيره في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولما صمدت كوبا في وجه الحصار الأميركي لمدة تقارب نصف القرن، ولما تمرد العديد من بلدان أميركا اللاتينية على القبضة الأميركية في الوقت الراهن، ولما تحدت الإرادة العربية في حرب أكتوبر 1973 نهج القوتين العظميين آنذاك القاضي بتحقيق استرخاء عسكري في الصراع العربي-الإسرائيلي، ولما شاكست إيران الولايات المتحدة الأميركية لمدة تقارب ثلث القرن... وليس هذا إلا قليلاً من كثير. في حالتنا هذه نذكر أن النظام السوري تعرض لوضع عصيب في عام 2005 في أعقاب اغتيال رفيق الحريري، وتكالبت عليه آنذاك القوى الكبرى وبصفة خاصة الولايات المتحدة وفرنسا لإجباره على سحب قواته من لبنان ففعل، وظن الكثيرون أن الدور السوري قد وصل إلى نهايته، وأصبح أصغر سياسي لبناني معادٍ للنظام السوري حرّاً في أن يطلق ما شاء من الأوصاف السلبية على هذا النظام، ويلصق به تهمة تدبير أي عمل تخريبي يحدث في لبنان، وساعد هروب نائب الرئيس السوري السابق عبدالحليم خدام وسعيه لإسقاط النظام على إظهار أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة. لكن "قانون الجدل بين العالمي والإقليمي" بدأ في العمل، واستطاعت السياسة السورية أن تثبت أن دورها في لبنان ليس مرتبطاً بوجودها العسكري، وعززت شبكة تحالفاتها العربية مع أنصارها وبصفة خاصة "حزب الله" في لبنان والفصائل الفلسطينية المعارضة لسلطة الحكم الذاتي في رام الله، وعززت كذلك من تحالفها مع إيران، وعمقت انفتاحها على السياسة التركية، وأصرّت على عقد القمة العربية في مارس 2008 في دمشق على رغم مواقف قوى عربية رئيسية قاطعتها أو خفضت مستوى تمثيلها في القمة إلى حد غير مسبوق، بل وانفتحت على التفاوض مع إسرائيل. وعندما تأكد أن ثمة خيوطاً مهمة ما زالت باقية في الأيدي السورية بشأن عدد من القضايا الحيوية في المنطقة بدأ التغير في نهج التعامل العالمي مع سوريا على النحو الذي أخرجها من عزلتها إلى حد بعيد. هكذا بدت سوريا رقماً مهماً في معادلة الدوحة بشأن تسوية الأزمة في لبنان، وعنصراً لا غنى عنه في عملية التسوية السلمية للصراع العربي- الإسرائيلي، وقناة مفيدة في الحوار الغربي -أو على الأقل الأوروبي- مع إيران، وقاد ساركوزي عملية التحول في الموقف الغربي من سوريا كما ظهر من لقائه بالرئيس السوري في باريس الشهر الماضي، وها هو يحضر معه قمة رباعية في دمشق بمشاركة رئيس الوزراء التركي وأمير قطر، ويصرح في كلمات لا لبْس فيها بقوله: "نحن في حاجة إلى سوريا في لبنان ومع إيران، والولايات المتحدة تعرف الدور الكبير الذي تقوم به سوريا في هذا الإطار". وسواء كان ساركوزي يتبع في هذا نهجاً مستقلاً عن الإدارة الأميركية، أو يعمل بالتنسيق مع هذه الإدارة بشكل أو بآخر، فإن الظاهر أمامنا أن العزلة السورية قد انتهت عالمياً وإقليمياً، فالرئيس السوري يستقبل في دمشق رئيس دولة أوروبية كبرى، لا يجد أدنى حرج في الإدلاء بالتصريحات السابقة، ويستقبل معه رئيس وزراء قوة إقليمية لا يستهان بها تقوم بدور الوسيط بينه وبين إسرائيل، وكذلك أمير دولة عربية هي الرئيس القادم لمجلس التعاون لدول الخليج العربية ولمجلس الجامعة العربية على مستوى القمة، ناهيك عن العلاقة العميقة مع إيران. ومن المؤلم أن تحدث هذه اللقاءات وبالذات مع الرئيس الفرنسي الذي أكد غير مرة على أن سوريا أوفت بالتزاماتها تجاه لبنان فيما لازالت قوى عربية رئيسية تصر على أن السياسة السورية في لبنان هي العقدة الرئيسية في عودة العلاقات إلى طبيعتها بين هذه القوى وبين سوريا. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تواجه السياسة السورية فيها مثل هذا الاختبار، وقد نذكر أنها تعرضت لنكسة خطيرة في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي عندما سقطت كل رهاناتها الإقليمية والعالمية تقريباً. راهنت على الدعم السوفييتي في صراعها مع إسرائيل فأفسد لها جورباتشوف الرهان بسياسة "توازن المصالح لا توازن القوى". وراهنت على عزلة مصر عربياً فقوضت تطورات الحرب العراقية- الإيرانية هذه العزلة كما بدا جلياً في قمة عمان 1987، وراهنت على هزيمة العراق في تلك الحرب فخرج منها منتصراً وبدأ رئيسه يعمل ضد وجودها في لبنان. وهنا قام الرئيس حافظ الأسد بالتكيف المطلوب في السياسة السورية على النحو الذي أبقى الدور السوري مؤثراً في الساحة الإقليمية حتى وقعت أحداث 2005، وكانت إعادة العلاقات مع مصر في نهاية 1989، وانضمامه إلى التحالف الدولي لإخراج القوات العراقية من الكويت في عام 1991 من أبرز مؤشرات هذا التكيف. غير أنه ليس بالتكيف وحده يبقى الدور السوري ويزدهر، وفي بقائه وازدهاره دون شك قوة للنظام العربي، فالسياسة السورية مطالبة باهتمام أكبر بقضية الإصلاح الداخلي وبالذات في شقه السياسي، ومطالبة كذلك بإمعان أكثر للنظر في مواقفها من بعض القضايا، كما هو الحال بالنسبة للرؤية الاستراتيجية للمفاوضات بين سوريا وإسرائيل، وكذلك بالنسبة لنهج التعامل مع المسألة اللبنانية. وأعتقد أن كلمة الرئيس بشار الأسد الافتتاحية في القمة الرباعية لم تكن موفقة فيما أعطته من انطباعات بخصوص وجود توجهات "تدخلية" سورية في الشأن اللبناني لا تتماشى مع المرحلة الراهنة في العلاقات بين البلدين، وخاصة أن خصوم سوريا في لبنان يتحرَّقون شوقاً لأية ذريعة يستندون إليها في مواصلة الهجوم على سوريا ودورها. غير أن هذه قصة أخرى.