كان لابد من هذا الصعود المذهل لباراك أوباما كي تبرهن أميركا لنفسها، وللعالم، أنها لا تزال قادرة على أن تكون عظيمة على رغم كل ما ارتكبه جورج دبليو بوش. ولكن، لا يزال أمام أميركا شوط كبير، حتى يوم الاقتراع ولحظة ظهور النتائج، لتصدّق ويصدّقها العالم أنها لا تزال قادرة على إنجاز تغييرات كبرى. فما حصل حتى الآن بالغ الأهمية، بلا شك، الأهم ما سنراه على الشاشة مساء 4 نوفمبر المقبل، الأمر لا يزال أكثر روعة من أن يصدَّق. أوباما حالة أميركية أولاً وأخيراً. هكذا يجب أن ينظر إليه بمعزل عن الإسقاطات الخارجية، فما يناسب العالم ربما لا يناسب أميركا. في العقود الخمسة الأخيرة لم يكن الرئيس الأكثر شعبية في الداخل هو الأكثر شعبية في الخارج، قد يشذ بيل كلينتون على هذه الظاهرة، لكن ماذا عن جيمي كارتر؟ لم تتأكد حظوظ أوباما للفوز بترشيح حزبه إلا بعدما استخرج كل الكليشيهات والثوابت التي يحب الإسرائيليون سماعها، وما لبث أن تبناها في ما يشبه قسم الولاء أمام الجميع، من مؤتمر "إيباك" إلى مستوطنة سديروت مروراً بالقدس المحتلة. مع ذلك، يبقى منافسه "الجمهوري" جون ماكين سابقاً بأشواط في استقطاب "اللوبي" وأذرعه وامتداداته، لأنه ليس جديداً على الساحة، وسبق اختباره، بل لم يكن بحاجة إلى اختبار لأنه موجود تماماً في القلب الأميركي النابض بحب الصهيونية. إذاً، فالاختبار الحقيقي لما يعتقد أوباما أنه أنجزه، يهودياً وإسرائيلياً، لن يتبين إلا في الاقتراع. صعود مستحق، تنظيم بارع، نخبوية ممزوجة بشيء من الشعبوية، كاريزما مؤكدة وخطابية لامعة، استنهاض للشباب، استخدام فذ لكل ما باتت تتيحه شبكات الاتصال والتواصل الحديثة، تمويل شعبي غير مسبوق يشير إلى الاستثمار في الأمل الذي يمثله المرشح الشاب، ديناميكية جماعية سمحت له بأن يخوض ويدير حملتين، تمهيدية مرهقة في مواجهة الماكينة "الكلينتونية"، ونهائية أكثر صعوبة لتحقيق الفوز في مواجهة الماكينة "الجمهورية" ذات الخبرة والعراقة. شعار "التغيير" الذي تحول أشبه بمحركة للعقول والقلوب، إلى حد أن المنافس ماكين بدا مصمماً على انتزاعه من أوباما لشدة ما هو حقيقي ومجدٍ، فبعد ثمانية أعوام "بوشية" لا شيء يمكن أن يخاطب أماني الناس مثل هذا "التغيير"، الذي لا يعكس صعوبات تحقيقه سوى بساطة الحاجة إليه. ولا تغيير إلا على قاعدة الثقة، تحديداً الثقة بالشخص، ولعل ما نبَّه باكراً إلى خطورة الظاهرة "الأوباماية" أنها استقطبت نسبة عالية من البيض، ذاك أن، على رغم كل شيء، أسود، والأسود يعني ما يعنيه لبيض أميركا، حتى لو كان متخرجاً متفوقاً من أهم كليات جامعة "هارفارد". لا يزال هذا اللون هو التحدي الذي ينتظر أميركا والأميركيين يوم 4 نوفمبر، كل ما قيل حتى الآن عن أميركا القادرة على الإدهاش، على إتاحة الفرص، وعلى إعطاء النماذج للإنسانية، هو صحيح إلى حد كبير، لكنه لا يعني بعد أن أميركا جاهزة لقطع حِمل الميل الأخير، المفصلي والتاريخي، بإيصال رئيس أسود إلى البيت الأبيض، وبالتالي لخذلان أميركي أبيض وبطل حرب فضلاً عن أن اسمه لا يستدعي أي اشتباه أو سخرية، فهو "جون" وليس "باراك"، وهو "ماكين" وليس "أوباما"، كما أن اسمه الأوسط "سيدني" وليس "حسين"... تلك هي الحقيقة، الصعبة والبسيطة، التي تتراءى في كثير من الكتابات الأميركية، لأنها هي التي ستحسم لمن ستكون الرئاسة، الانتخابات المقبلة ستكون اختباراً لمدى العنصرية في الولايات المتحدة. الدليل إلى ذلك، نجده في عملية اختيار المرشحة سارة بالين لمنصب نائب الرئيس، في مراحل سابقة فكر فريق ماكين في إمكان مرشح أسود أو مرشحة سوداء، وتواتر اسم كوندوليزا رايس ، ولو حصل ذلك لكان "اليمين" الأميركي ساهم في شق الطريق إلى "التغيير". لكن الصراع هو على أصوات البيض، والمهم استقطاب الكتلة المحافظة والمتدينة بما فيها الأصولية، لذا ارتسمت بقوة ملامح بطاقة "ماكين- بالين" على رغم ما وصف بأنه "مجازفة" في اختيار حاكمة ولاية آلاسكا. فهذه قد تجعل الأميركيين، والعالم، يحنّون إلى أيام ديك تشيني ويترحمون عليها، لكنها قد تكون قادرة على طمأنة "اليمين" المتشدد الذي شكك دائماً في"اعتدال" ماكين. الأكيد أن حملة أوباما، الناجحة بكل المقاييس، قدمت كل عناصر "التغيير" لكن يبقى أن يبرهن الناخبون أن هذا طموحهم، في المقابل، وعلى رغم كل الجهد الذي بذله ماكين للتمايز، لم يتمكن من خلع ثوبه البوشي، فإذا انتخب يبرهن أن هذه حقيقة أميركا بحلوها ومرّها، أميركا التي لا يهمها أن تكون محبوبة، وإنما أن تكون مهابة والجميع في خدمتها. سيلتقي أوباما وماكين في "الموقع صفر" خلال إحياء ذكرى 9/11، والثاني يريد أن يبقى في هذا الموقع ليفوز، أما الأول فيراهن على الفوز بالخروج من كوابيس الحادي عشر من سبتمبر.