أجرى العلماء للمرة الأولى تسجيلاً لنشاط خلايا الدماغ أثناء قيامها بعملية استدعاء الذاكرة الفورية، وهو ما أدى ليس فقط إلى كشف أين يتم تسجيل التجارب المُتذَكّرة، وإنما أيضاً- ولو جزئياً- كيف يكمن للدماغ أن تعيد خلقها مجدداً؟ وقد توصل العلماء إلى تصور قريب من هذا منذ مدة طويلة، بيد أنه لم يكن هناك دليل مباشر على الكيفية التي يتم بها هذا الأمر. ويقول بعض العلماء إن تلك الدراسة تكاد تكون قد أغلقت القضية على النحو التالي:إن عملية تذكر الفعل بالنسبة للمخ، تشبه إلى حد كبير عملية القيام بالفعل ذاته (على الأقل في المدى القصير، حيث لا يقول العلماء شيئا تقريباً حول الذاكرات في المدى الطويل). ومن المتوقع أن تفتح تلك التجربة التي نشرت تفاصيلها في عدد يوم الجمعة الماضي من مجلة"ساينس"، مساراً جديداً للأبحاث التي تدور حول مرض "الزهايمر" وغيرها من فقدان القدرات العقلية سواء بسبب التقدم في العمر أو لأسباب أخرى، وأنها ستساعد على تفسير كيف تبدو بعض أنواع الذاكرات وكأنها قد جاءت من مصدر غير مجهول. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن العلماء والباحثين كانوا قادرين أيضاً في إطار تلك التجربة على معرفة أنواع محددة من الذاكرات قبل أن يُبلّغ الأشخاص الذين تجري عليهم التجربة بأنفسهم عن امتلاكهم لتلك الذاكرات بثانية أو اثنتين على الأقل. يقول "مايكل جيه كاهانا" أستاذ علم النفس في جامعة بنسلفانيا، والذي لم يكن من ضمن المشاركين في البحث:"هذا هو على وجه التحديد ما كنت سأطلق عليه الاكتشاف التأسيسي"، وأضاف أيضاً:" لا أستطيع أن أتذكر أي دراسة أخرى يمكن مقارنتها بهذه الدراسة التي قادت إلى هذا الاكتشاف). ومن رأي "كاهانا" أيضاً: أن ما حدث يعد تحولاً جذرياً في فك لغز الذاكرة، وخطوة مهمة في مساعدتنا على استكمال معرفة التفاصيل المتعلقة بماذا يحدث بالضبط، عندما يقوم الدماغ بإنجاز هذه الرحلة الذهنية المتعلقة باستعادة الخبرات السابقة. والدراسة الجديدة تجاوزت بكثير النقطة التي كانت قد توقفت عندها معظم أبحاث الذاكرة السابقة من ناحية أنها لم تركز فقط على التعرف على- وتجميع- رموز محددة، بل على الاستدعاء الحر بصرف النظر عما يقفز إلى رؤوس الأشخاص عندما- كما في هذه الحالة- يطلب منهم تذكر مقاطع من أفلام قصيرة شاهدوها لتوهم. ومن المعروف أن القدرة على إعادة تشكيل التجارب الماضية تتدهور بسرعة لدى الناس المصابين بالزهايمر، وغيره من أمراض فقدان القدرات العقلية المرتبطة بتقدم العمر، وهو أمر جوهري لما يعرف بالذاكرة المسلسلة Episode Memory أي كتالوج الصور التي تكوّن إذا ما جمعناها معا، ماضينا المُتذَكّرْ. ففي هذه الدراسة قام فريق من العلماء بتوصيل أقطاب كهربائية صغيرة بأدمغة 13 شخصا يعانون من حالات حادة من الصرع، ومن المعروف أن زرع الأقطاب الكهربائية في الدماغ البشري يعتبر من الإجراءات المعتادة بمثل هذه الحالات، حيث يتيح للأطباء أن يحددوا بدقة موقع العواصف المصغرة للنشاط الدماغي التي تتسبب في نوبات الصرع. ضمن هذا الإجراء، شاهد المرضى مقاطع فيديو لا تزيد مدة كل مقطع منها عن 5-10 ثوان، كان بعضها مختاراً من عروض تلفزيونية مشهورة تَعرض، ضمن أحداثها صوراً لحيوانات أو لبعض المعالم المشهورة مثل برج إيفل في فرنسا على سبيل المثال. وسجل العلماء نشاط إطلاق ما لا يقل عن 100 خلية عصبية للشخص الواحد. وتمركزت معظم هذه الخلايا العصبية المسجلة حول ما يعرف بقرن آمون Hippocampus وهو الجزء المسؤول عن الذاكرة في الدماغ البشري في كل شخص من الأشخاص الذين أجريت عليهم التجربة, تعرف الباحثون على خلايا فردية زاد نشاطها بصورة كبيرة خلال عرض بعض مقاطع الفيديو وأخرى ظلت هادئة أثناء عرض مقاطع أخرى. وفي هذه التجربة كان نصف عدد الخلايا تقريباً يشهد نشاطاً كبيراً كاستجابة لمقطع فيديو واحد على الأقل، في حين استجابت خلايا أخرى بفتور لمقاطع أخرى. بعد أن تم إلهاء المرضى بأمور أخرى مؤقتاً، عاد الباحثون وسألوهم عن رأيهم في مقاطع الفيديو على أن يجيبوا خلال دقيقة واحدة على الأكثر، وأن يبينوا في هذا الرد ماذا خطر على أدمغتهم بالضبط عندما رأوا تلك المقاطع. وقد تمكن هؤلاء المرضى من التعرف على كافة مقاطع الفيديو التي رأوها على وجه التقريب، وعندما تم تذكيرهم بتفاصيل قضية من القضايا المعاصرة التي تهم المجتمع الأميركي، أو بشخصية بارزة من شخصياته، فإن ما حدث هو أن جميع الخلايا التي كانت نشطة خلال مشاهدة مقطع آخر مهم، قد نشطت بقوة، وعادت إليها الحيوية مجدداً. وقال الدكتور"اسحق فرايد" أستاذ طب الأعصاب بجامعة كاليفورنيا، والذي شارك في إجراء تلك التجربة إن الخلايا العصبية الفردية التي تم تسجيل استجابتها خلال مقاطع الفيديو لم تكن تتصرف بمفردها، وإنما كانت مثلها في ذلك مثل كافة الخلايا المتشابهة جزءاً من دائرة مغلقة تستجيب للأفلام تشمل آلافا إنْ لم يكن ملايين الخلايا الأخرى. ويقول أحد العلماء الذين شاركوا في تلك التجربة:"إن الشيء المثير هنا هو أن هذه التجربة تمنحنا دليلاً بيولوجياً مباشراً لشيء كان يعتبر من قبل نظرياً تماماً". بينديكت كيري كاتب أميركي متخصص في الشؤون العلمية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"