استقرت الأزمة الجورجية أواخر الأسبوع الماضي على صراع إرادات حول بقاء حكومة "ميخائيل سكاشفيلي" الموالية للغرب من عدمه. وفي هذا السياق وصف رئيس الوزراء الروسي "فلاديمير بوتين" الرئيس الجورجي بأنه قد أصبح "جثة سياسية" وقال إن موسكو لن تتعامل معه بعد الآن. وفي نفس الوقت أرسلت الولايات المتحدة إليه حزمة مساعدات عاجلة قيمتها مليار دولار أوصلها إليه نائب الرئيس الأميركي "ديك تشيني" شخصياً. والواقع أن الولايات المتحدة تصور عملية إنقاذ الرئيس الجورجي البالغ من العمر 40 عاماً، على أنها هي أفضل طريقة لمعاقبة نظام "فلاديمير بوتين"، على غزوه الطائش لجارته الشهر الماضي. ففي نهاية المطاف ليس هناك كثير شك، في أن إطاحة الرئيس الجورجي كانت الهدف الأول للكرملين. والمفارقة هنا أنه على رغم هذه الحملة الأميركية الشعواء الرامية لاحتواء الميول العدوانية الروسية، فإن المسؤولين الأميركيين في الحقيقة لا زالوا يستشيطون غضباً من "سكاشفيلي" نفسه بسبب هجومه الأهوج والمرتجل من الناحية العسكرية على عاصمة إقليم أوسيتيا الجنوبية "تسخيفالي" في الثامن من أغسطس الماضي ذلك الهجوم الذي فتح الباب على مصراعيه أمام بوتين كي يشن عدوانه. صحيح أن الهجوم الجورجي كان مسبوقاً باستفزازات من قبل المليشيات الأوسيتية، التي تتحكم فيها روسيا، وأن ما تلا ذلك من استيلاء للجيش الروسي على معظم أراضي جورجيا كان -كما بدا واضحاً- أمراً مخططاً، ومعداً له بشكل جيد مسبقاً، إلا أن الصحيح أيضاً هو أن "سكاشفيلي" الزئبقي قد تجاهل التحذيرات الأميركية المباشرة، بعدم الانسياق وراء الاستفزازات، والسقوط في فخ بوتين. وبعدم استماعه لتلك التحذيرات، والحماقة التي ارتكبها بضربه لأوسيتيا الجنوبية، فإن "سكاشفيلي" تسبب في إحراج أقوى المدافعين عنه في واشنطن، وزج ببلاده والولايات المتحدة ذاتها في معركة باهظة التكلفة وخاسرة -حتى الآن على الأقل. ولهذا السبب فإنه في المؤتمر الصحفي نفسه الذي أعلنت فيه وزيرة الخارجية الأميركية "كوندوليزا رايس" أن جورجيا ستصبح واحدة من أكبر الدولة المتلقية للمساعدات الأميركية، تمت أيضاً إعادة توصيف خطوة "سكاشفيلي" بأنها "غلطة" من قبل داعمه الأساسي في الإدارة الأميركية نائب مساعد وزيرة الخارجية "مات بيرزا". ولعل هذا يفسر السبب الذي يجعل مسؤولي تلك الإدارة يدلون في دوائرهم الخاصة بآراء أكثر سخرية في معرض تقييمهم لرجل كان عادة ما يفاجئ واشنطن بمفاجآت غير سارة. فقبل غزوه لأوسيتيا الجنوبية بتسعة أشهر أرسل "سكاشفيلي" قوات مكافحة الشغب، لمهاجمة المتظاهرين في العاصمة "تبليسي"، وأغلق محطة تلفزيون تابعة للمعارضة، مما أجبر الولايات المتحدة على التدخل لإنقاذ الحريات السياسية التي تبرر تحالفها مع جورجيا. فالحقيقة هي أنه سيكون من الأيسر كثيراً للولايات المتحدة أن تدافع عن جورجيا وديمقراطيتها، إذا لم تكن مضطرة للدفاع عن سكاشفيلي. ومع ذلك، فإن الرئيس الجورجي الذي يفهم قواعد اللعبة الإعلامية جيداً، نجح بسهولة في تأمين إعادة انتخابه في بواكير هذا العام، ومن المقرر أن يستمر في منصبه حتى عام 2013. ومن هنا، فإن نجاح روسيا في إجباره على الرحيل، سيؤدي إلى تخريب النظام السياسي للبلاد. فالهجوم العام الفج عليه من قبل بوتين، وصديقه الحميم "ديمتري ميدفيديف" الذي يطلق على "سكاشفيلي" علنا صفات مثل "المعتوه" و"الوغد" لم يكن له من نتيجة سوى تعزيز وضع "سكاشفيلي" سواء في واشنطن أو تبليسي. ومع ذلك، إذا ما كان استمرار بقاء الديمقراطية الجورجية يتطلب بقاء "سكاشفيلي" فإنه يجب أن يتطلب أيضاً أن تتم محاسبته في نهاية المطاف. ومتى ما تم وضع نهاية للاحتلال الروسي لجورجيا، والتغلب على الخطر الوشيك على البلاد، فإن التحدي الذي سيجد الجورجيون أنفسهم أمامه هو: هل سيكونون قادرين على استخدام المؤسسات الديمقراطية في التحقيق مع رئيسهم والاعتراض على سلوكه، ومحاسبته على الضرر البالغ الذي ألحقه ببلاده، والذي عاد بها سنوات إلى الوراء؟ وهذه النقطة أوضحتها بشكل جلي في واشنطن الأسبوع الماضي "نينو بورجانادزه" الرئيسة السابقة للبرلمان الجورجي التي ساعدت"سكاشفيلي" على تسنم قيادة الثورة الوردية عام 2300، قبل أن تنفصل عن حليفها القديم الربيع الماضي وتنشئ "مؤسسة الديمقراطية والتنمية" في تبليسي لمعالجة الضعف الفاضح في سياسات جورجيا الجديدة. وتدعو "بورجانادزه" من خلال هذه المؤسسة إلى حرية الصحافة، وإضفاء درجة أكبر من الاستقلالية على عمل القضاة، والمزيد من القوة والاستقلالية على البرلمان، وهي أمور أدى غيابها كما ترى إلى فتح الطريق أمام "غلطة" سكاشفيلي الأوسيتية. ولكن"بورجانادزه"، مثلها في ذلك مثل جميع الساسة الجورجيين، تشعر الآن بالحرج من توجيه انتقادات لـ"سكاشفيلي" في الوقت الذي لا تزال فيه القوات الروسية تسد طرق البلاد وموانئها، إلا أنها تقول مع ذلك: "إن الطريق المتاح أمامنا لحل تلك الأزمة، هو أن نتصرف كديمقراطية حقيقية، بحيث يقوم الناس الذين توجد لديهم أسئلة حول حقيقة ما حدث بتوجيه تلك الأسئلة إلى الحكومة، التي يجب أن تلتزم بالرد ثم يتخذ الشعب القرار بعد ذلك". وإدارة بوش بدورها تحتاج هي الأخرى إلى التوصل إلى قرار بشأن الكيفية التي يمكن أن تفصل بها بين مساعدتها لجورجيا كدولة وديمقراطية، وبين دفاعها عن "سكاشفيلي" كشخص. وصفقة المساعدات الجديدة لجورجيا لا تفعل ذلك لأن جزءاً كبيراً من الأموال سيصب في الميزانية الحكومية علاوة على أن قيمة تلك الصفقة بأكملها مخصصة للدعم الاقتصادي، وإعادة البناء، وليس فيها ما هو مخصص لتعزيز المؤسسات الديمقراطية أو المجتمع المدني. وربما يكون ذلك ضرورياً لحرمان بوتين من جنى ثمار النصر ولكنه لن يساعد على حل مشكلة القيادة في جورجيا. جاكسون ديل كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"