لا أحد يدري حتى الآن، سبب تسمية الولادة الجراحية التي يتم فيها استخراج الجنين من بطن الأم بعد شقها طولياً، بـ"الولادة القيصرية". فالبعض يشير إلى قانون روماني قديم (LEX CAESAREA)، يفرض نزع الطفل من بطن أمه، إذا ما توفيت قبل أن تلد طفلها، وإن كانت المراجع التاريخية لا تشير إلى وجود مثل هذا القانون. ويقص بعض الرواة أسطورة مفادها أن أسلاف القيصر الروماني "يوليوس قيصر"، كانوا يولدون بهذه الطريقة، وإن كانت هذه الروايات لا تزيد على كونها مجرد أساطير. وإلى جانب الاختلاف على أصل التسمية، يختلف الأطباء أيضاً على الأسباب التي يتوجب فيها استخدام الولادة القيصرية، حيث تتراوح هذه الأسباب ما بين حالات "الطفل الثمين" الذي حملت به أمه بعد سنوات طويلة من العُقم، إلى حالات تعسر الولادة الطبيعية، أو الحمل بتوائم، أو حدوث مضاعفات قبل وأثناء الولادة، وغير ذلك من الأسباب. ويتم تقسيم تلك الحالات والأسباب عادة إلى قسمين: الأول يلجأ فيه الأطباء إلى ما يعرف بالولادة القيصرية الإجبارية أو الطارئة، بناء على قرار لحظي، بأن حياة الأم أو الجنين أصبحت في خطر، كما هو الحال مع تعسر الولادة مثلاً. والقسم الثاني يعرف بالولادة القيصرية الاختيارية، أو المخططة مسبقاً، والتي يخطط لها الطبيب بناء على سبب طبي قد يعرِّض حياة الأم أو الجنين للخطر، إذا ما تركا للولادة الطبيعية، كما هو الحال مع ولادة التوائم مثلاً. وغالباً ما يتم هذا النوع من الولادة قبل أسبوع أو أسبوعين من التاريخ المتوقع للولادة الطبيعية، ويتم تحديد اليوم والساعة بناء على مشاغل الطبيب وظروف الأم. تلك كانت هي أنواع الولادة القيصرية المعروفة طبياً، حتى وقت قريب. وإن كانت السنوات الأخيرة قد شهدت نوعاً ثالثاً، أصبح يعرف بالولادة القيصرية الطوعية، أي التي تتم بناء على رغبة الأم (CAESAREAN DELIVERY ON MATERNAL REQUEST)، أو الولادة القيصرية تحت الطلب. وفي هذه الحالات، تختار الأم أن تلد قيصرياً، دون وجود سبب طبي من أي نوع، سواء قبل الولادة، أو خلال الولادة نفسها. ويعود السبب في تنامي هذا الاتجاه إلى التطورات الهائلة التي شهدها مجالا الجراحة والتخدير بوجه عام، مما جعل الولادة القيصرية إجراء آمناً إلى حد كبير. أما اختيار الأمهات لهذا الطريق فيعود إلى عدة أسباب، منها ضمان الولادة في وقت ومكان محددين سابقاً بدلاً من التعرض للمفاجآت، والخوف من آلام عملية الولادة الطبيعية التي قد تستمر لعدة ساعات. ومن المنظور الطبي، تتميز الولادة القيصرية بنزيف أقل، وبانخفاض احتمالات تعرض الطفل للإصابات المصاحبة للولادة الطبيعية أحياناً. وعلى المدى الطويل، وخصوصاً في حالات الولادات المتعددة، تنخفض احتمالات تعرض أنسجة وعضلات الحوض للتلف، وهو ما قد يؤدي إلى مضاعفات كثيرة مثل فقدان القدرة على التحكم في البول. ولكن على رغم كل هذه الأسباب، ظهر فريق آخر معارض لهذا الاتجاه، بناء على أن الولادة القيصرية ليست عملية طبيعية بالمرة، وتزداد فيها احتمالات تعرض الطفل للعدوى بمقدار أكبر، وفي نفس الوقت تنخفض نسبة الأطفال الذين يرضعون طبيعياً بعد الولادات القيصرية، هذا بالإضافة إلى أن تكلفة الجراحة، وحاجة الأم وطفلها للبقاء في المستشفى لفترة أطول بعد الولادة، يرفعان من تكلفة الولادة القيصرية بدرجة هائلة، مقارنة بتكلفة الولادة الطبيعية حتى وإن تمت في مستشفى. ومن حسن حظ هذا الفريق أن الدراسات والأبحاث الطبية أصبحت تظهر يوماً بعد يوم المزيد من الأضرار الناجمة عن الولادة القيصرية، والمزيد من الفوائد المنسوبة للولادة الطبيعية. وآخر تلك الدراسات نشرت الأسبوع الماضي في إحدى الدوريات العلمية المتخصصة في سلوكيات وعلم نفس الأطفال (JOURNAL OF CHILD PSYCHOLOGY AND PSYCHIATRY)، وخلصت إلى أن الولادة القيصرية تضعف من رابطة الأمومة بين الأم وطفلها. وقد رد علماء جامعة "يل" الأميركية هذه الملاحظة على أنها نتيجة كون الولادة القيصرية لا تحفز إفراز الجسم لهرمون خاص (OXYTOCIN) يلعب دوراً مهماً في تشكيل سلوك الأم بعد الولادة، ومدى اهتمامها وارتباطها بطفلها، كما يحدث بعد الولادة الطبيعية. وعلى نفس المنوال، وقبل أسبوعين فقط، نُشرت دراسة في مجلة علمية أخرى (PUBMED JOURNAL)، وأجراها هذه المرة علماء جامعة "كوينز" بمدينة بلفاست الإيرلندية، وخلصت إلى أن الأطفال الذين يولدون قيصرياً تزيد لديهم احتمالات الإصابة بداء السكري من النوع الأول، والمعروف سابقاً بسكري الأطفال، بالقياس إلى أقرانهم الذين يولدون طبيعياً. ويعتقد القائمون على هذه الدراسة أن الزيادة الهائلة في عدد حالات الولادة القيصرية، الذي زاد بمقدار 46% في الولايات المتحدة مثلاً منذ عام 1996، ليصل 30% من جميع حالات الولادة عام 2005، أو واحدة من كل ثلاث ولادات، ربما كان هو السبب خلف الزيادة المماثلة في عدد الأطفال المصابين بداء السكري. وهو نفس الاتجاه الملاحظ في دول غربية أخرى مثل بريطانيا التي وصلت نسبة الولادات القيصرية فيها إلى 20% من الولادات الطبيعية، وكندا والتي بلغت نسبة الولادات القيصرية فيها 22.5% مقارنة بالولادات الطبيعية. هذا في الوقت التي تشهد فيه تلك الدول نفسها زيادة مماثلة في عدد الإصابات بالسكري بين الأطفال. ولن يتسع المقام هنا لتعداد جميع الدراسات والأبحاث الطبية التي تظهر الجوانب السلبية للولادة القيصرية والعواقب الصحية لها على الأم والطفل، وهو ما يجعل من الضروري التفكير العميق في قرار الولادة قيصرياً، وخصوصاً إذا لم يتوفر سبب طبي مهم يبرر اللجوء إلى مثل هذا الاختيار. د. أكمل عبدالحكيم