تترنم قيثاراتُ عمره السبع والسبعين مع نشيد أوتار ساقيه الشابتين قافزاً من تلة إلى أخرى, يحنو على كل نبتة في أعلى أعالي الجليل. يسرد لنا مفعماً بالعيش مدى الحياة تواريخ الأرض والسماء والمطر والهواء هنا من يوم أن استظلت حواء شجرة تفاح على هذه الخضراء. يمد شكري عرّاف ساعده طالعاً من "معليا" قريته الجميلة التي ولد فيها ليجس غصن شجرة هنا ويفرد يده بحنان على جذع نبتة هناك فيصير امتداداً لما تحضن يده, وسياجاً يحمي شجر اللوز والليمون. عشرات السنين وهو يدور بين تلال هذا المكان ووديانه, يتفرَّس في كل حبة تراب, يدوِّن اسمها وعنوانها ونبع الماء الذي ارتوت منه. يصعد بنا إلى أقصى "الجرمق", نصافح السماء هناك ونرى الكون جميلاً منداحاً في الجهات الخمس! يمر في مئات القرى والبلدات, يعيد كتابة أسمائها العربية, يزيح الحرف العبري الساقط عنوة على لافتات الشوارع, ويرصف فوقه واحدة من أغنيات البساتين التي تعرف هويَّات الوجوه. في أكثر من عشرين كتاباً ساح طويلاً متعبداً تفاصيل السهل الساحلي, صاعداً عتبات الكرمل, نازلاً مرج بن عامر. هنا العرّاف يغفو بين طيات أوراق الشجر, يصحو في فوهات أفران الطوابين, يتمايل مع غزل الريح لمناديل صبايا النبع, يتسلق شقوق حجر البيوت وسقوفها, ويطير على ارتفاعات مآذن جوامع القرى وكنائسها, ويُحصي كلّ ما يُحصى. في واحد من تلك الكتب وثق هذا العرّاف المسيحي لأكثر من ألفين وخمسمائة موقع أثري إسلامي فأقامت له الحركة الإسلامية في فلسطين الخط الأخضر احتفالاً ضخماً سنة 1993 ما زال يذكره بتقدير حتى الآن. يشير إلينا: هذان هما "ثديا فلسطين" جبل الطويل (أو الجليل الأعلى) وجبل عداثر, تسمية قديمة من عهود حضارات مرت على هذه الجبال وشواطئها. كان بحارة سفن الرومان خلال قرون ماضية وعند توجههم إلى ساحل عكا يرون وهم في عرض البحر البعيد أول ما يرون هذين الجبلين منتصبين في أفق الترحاب, مشدودين إلى السماء, عذراوين يدوخ البحارة شوقاً إليهما فيصوبون مقدمة سفنهم لتأوي في غموض اللازورد الرائق بين الجبلين حيث بوصلة الأمان. يواصلون إبحارهم باطمئنان إلى دقة المسير ومقدمة السفن تناغي البحر نحو نهاية راسية في المرفأ النشط. كانت هذه البلاد, يضيف العرّاف, تحتضن القادمين من البحر إلى السهل بلا حدود, كريمة وغنية, ولم يغرس أحد في بحرها أو قريباً من شطها حراباً تصدُّ القادمين. تمازحنا جميعاً لنأخذ صورة تذكار نتوسط فيها ثديي فلسطين خلفنا: وقفنا للصورة... "كليكْ", فبانت وراء الصورة ألوف السفن تصعد كلا الجبلين, صفوفاً لا نهاية لآخرها, ولا تاريخ لأولها. مشيْنا ربع ساعة لنصل إلى "مغارة الشيخ وهيب"، نهبط وادياً صغيراً إلى تجويف صخري واسع كله ظلال وندىً تهبط بسببه الحرارة إلى درجة خفيضة. في هذه الديار, يشرح العرّاف, الأرض لا تكذب: إذا عطشت طلبتْ ماءً, وإذا ارتوت تفجرت ينابيع, يفصّل لنا أصل النبع وتواريخ انبجاسات الماء فيه. هذه مقبرة "كفر برعم"، يشير العرّاف، ونحن على حافة الحدود اللبنانية. المقبرة مسيَّجة بسور طويل يحاذي الشارع الصغير, ولها بوابة حديدية نرى من بين قضبانها هدوءاً موحشاً يفترس الصلبان الحزينة التي تعلو مساكن موتى القرية. القرية نفسها أزيلت عن وجه الجليل, يقول, وهُجّر أبناؤها إما إلى لبنان وإما إلى 39 قرية أخرى في فلسطين, كما أحصى العرّاف. لم يسمح لهم الغاصبون بحق العودة إلى قريتهم إلا في أكفان, وفقط إلى مقبرتها. طالما ظلوا أحياءً محظور عليهم العيش هنا, إن في خربة القرية, أو بقاياها, أو حتى في مقبرتها. إن مات أحدهم دخل محمولاً إلى المقبرة التي تعلو بوابتها كلمات عبرية ترحب بالزوار! يبقى هو أو هي ويغادر الأحياء! على الجانب الآخر للحدود هناك قرى الرأس الأحمر ومارون الرأس في الجنوب اللبناني. هنا الناس وتاريخهم ما كانوا يعرفون هذه الحدود. كان خبز الطوابين يرحل ساخناً بين فجر العجين على يمين الحد وظهيرة غداء الزعتر على يساره, ذات الزعتر الذي استلذ به العرّاف على مائدة فطور الناس الطيبين في "البقيعة". كانت سلوى مخُّول تلميذة العرّاف في معهد المعلمين في حيفا في سنين ماضية قد أفاضت بكرم صباحي تعاهد على إشباعنا من هناك وحتى الجولان. وكان حليم مخُّول, زوجها ومحامي القرية, يقطر رعاية وأدباً حلواً خجل منه مربى المشمش المتكئ باختيال بين صفائح الجبنة وعناقيد عنب الضحى. على الضد من الزعتر وحقوله العفوية أنشأت الإدارة البريطانية الاستعمارية سنة 1938 شارعاً بمحاذاة الحدود اللبنانية وبكلفة 886 ألف جنيه إسترليني, تبعاً للتأريخ الدقيق لعرّاف الجليل. كان الهدف غير المعلن وصْل المستوطنات اليهودية الغازية, ومراقبة الحدود لمنع قدوم "المتسللين" القادمين من الشمال دعماً للثوار الفلسطينيين. وإمعاناً في محاصرة الثوار أقامت تلك الإدارة 108 أبراج أسطوانية من الخرسانة الصماء على امتداد الحدود, تقص ببشاعتها الفجة سكينة التقاء الأفق النديِّ هنا. قطعت تلك الأسطوانات البشعة قوس هلال الترحال التاريخي بين سوريا وفلسطين ولبنان, من دمشق إلى بانياس نزولاً إلى الحولة ثم إلى الجش جنوباً وغرباً وبعدها صعوداً إلى صور في الشمال حيث يكتمل الهلال. شجر الحور ينمو في تربة طينية, أما شجر السنديان فينمو في أرض صخرية قاسية, وقلما تجد الاثنين في بقعة واحدة. لكن سأريكم سنديانة وشجرة حور فوق جبل الجرمق تتعانقان. نتعجب من هذا العرّاف الذي يعرف دلال كل شجيرة هنا ومتى وأين يناغي الريح أفنانها. لما يمد يده لمصافحة غصن ما يدور براحة يده ببطء حول الغصن ويحتضنه رويداً رويداً, كأنما لا يريد إجفاله بإمساك مفاجئ. هذا شجر الزعرور تُعمل منه حلوى قمر الدين, وهذه الشجرة التي جذعها أحمر تُسمى شجرة قاتل أبيه, فعند جذعها, كما تقول الأسطورة الفلسطينية, أمسك الولد أباه الذي خطب حبيبته فسال من رأس الوالد دم أحمر خضب جذع الشجرة وظل من يومها ملوناً بالدم ومنعوتاً بالأسطورة. وهذه النبتة تُسمى سويده لأنها سوداء, وهذه اللجيمة منها يُصنع لجام الخيل, وهذا شجر العلّيق سُمي كذلك لأنه يعلق في حلق الإنسان. يقول: هنا نكبر مع كل جذر, ويدق قلبنا مع مرض كل غصن, ونرخي السمع لغناء الصنوبر في الليل, ونغسل عيوننا بمطلع كل زهرة تلقي صباح الخير على الشمس, فقل لي إن كان أيٌ من هؤلاء الغرباء يعرف حرفاً من لغة هذا الشجر؟ توقفنا على جبل عالٍ بعد أن سرنا شرقاً كثيراً, فأشار بيده وقال هناك كانت بحيرة الحولة التي جففوها. لكن تعالوا لأريكم بقايا هذا الجامع الحزين. هبطنا منحدراً صخرياً ووصلنا إلى قاعٍ رحبٍ يؤوي جامعاً متهدماً يحيط به بقايا خان واصطبلات. هذا مقام النبي يوشع. ريح تصفر من فضاءات الجدران المتهالكة, محرابٌ ترِبٌ محفور في الصخر, على يمينه العلوي رسم لفظ الجلالة, وعلى الأيسر "لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار". سألت العرّاف عن النقش الفريد في هذا الشمال الفلسطيني, فقال كانت على هذه الحدود قرية شيعية واحدة اندثرت مع ما اندثر في حرب النكبة, لكن بقيت العيون محمرّة بالدمع فوق المحراب. لكن انظروا حولكم شجيرات الصبار تملأ المكان. كل شجرة منها تقول كان هنا طوال قرون ناس طيبون يتكلمون لغة الأرض والهواء. من بين هذه الشجيرات وخارج بوابات الهواء عبر مارُّون كثر, وأقام مارُّون كثر, لكنهم جميعاً حملوا وسيحملون قسوتهم ويمضوا.