نستطيع أن نقدم ثالوثاً من المفاهيم المتداخلة الواردة في عنوان هذه المقالة لتحليل وفهم بعض ملامح الواقع الراهن في العلاقات الدولية والإقليمية، ضمن ما يموج به هذا الصيف الساخن من تطورات وأحداث قد تشكل نظاماً عالمياً جديداً، وقد تفرز واقعاً صعباً على أكثر من صعيد. وثالوث المفاهيم المشار إليه: التغيير، والندية، والثقة المفقودة، يبدو الآن في أكثر من موقع متداخلاً ومتشابكاً. والبداية عربية. فقد اكتمل زمن التغيير مثلاً بزيارة رايس -في خريف ولاية بوش- لتمنح القبول والرضا لليبيا متحدثة عن خصوم واشنطن الباقين في إيران وكوريا الشمالية، مؤكدة أن عليهم اتباع النموذج الليبي. في حين أكد وزير الخارجية الليبي، أن زمن المواجهة مع أميركا قد ولَّى! ولكن هل سمع ذلك الدب الروسي وشافيز وطهران و"كيم إل سونج"؟ هذا هو السؤال. وهناك الآن العديد من نقاط اشتباك عناصر الثالوث أعلاه. وإذا استعرضناها فسيقتضي ذلك منا تحويماً في أكثر من سماء، واستطلاعاً لأكثر من أفق. فهناك الصين ورياح التغيير القوية التي تدفعها إلى المسرح العالمي بتنظيمها وتسيُّدها للأولمبياد وحصدها لأكبر عدد من الميداليات الذهبية فيه، معطوفاً على ذلك بروزها القوي على المسرح الدولي كقوة اقتصادية ذات طموح عالمي جامح. وإلى ذلك تتقدم المشهد أيضاً حمَّى الانتخابات الأميركية بكل تعرُّجاتها وتغييراتها ومفاجآتها التي تحبس الآن أنفاس الأميركيين والعالم معاً. وهناك حرب القوقاز وبزوغ ندِّية روسيا مجدداً. ويمكن أن نستمر في الحديث عن مظاهر الندية أيضاً بين دول الخليج وإيران بعد تصريحات خليجية شاجبة وقوية وغاضبة صدرت من مجلس التعاون الخليجي ضد إيران لما قامت به من فتح مكاتب إدارية في جزيرة "أبو موسى" الإماراتية التي تحتلها إيران، والقلق الخليجي من مشروع طهران المتنامي ورد فعل إيران كالعادة الغاضب على ذلك. ولا تنتهي القائمة أيضاً بالدور السوري المتصاعد في كسر العزلة وترميم العلاقات مع لبنان. وزيارة الرئيس التركي عبدالله غول التاريخية إلى أرمينيا في استحضار للتاريخ، ولمآسي المجازر مع الخصم القديم. ويستمر التغيير والبحث عن الثقة المفقودة أيضاً في فوز "مستر 10%"، كناية عن صعود أرمل بوتو في انتخابات الرئاسة الأخيرة في باكستان، وصولاً إلى طلب العراق شراء طائرات F16 الأميركية المقاتلة، وتفجير صحافي التحقيقات الأميركي الأبرز والأجرأ "بوب وودورد" لفضيحة من العيار الثقيل بكشفه أن أميركا تجسست على المالكي، وتسليطه الضوء على خلافات داخل الإدارة الأميركية وخاصة بين الطاقمين السياسي والعسكري حول آلية اتخاذ القرار في حرب العراق، ودواعي إقصاء رامسفيلد وكيسي وجون أبي زيد. والأخطر من هذا كله أن الرئيس بوش -في أكثر من مناسبة- لم يكن يتولى دفة القيادة، في ما يتوقع أن يثير كتابه الجديد الكثير من اللغط والجدل في واشنطن وبغداد، وخاصة لجهة تجسس واشنطن على حليفها المالكي، وعلمها خفيةً بكل ما كان يقوله! ويبقى تسجيل مؤشر دولي آخر ضمن هذه القائمة المثيرة هو التشكيك الروسي في نوايا وأهداف أميركا و"الناتو" والغرب عموماً، وتأكيد موسكو أن عصر التراجع الروسي قد ولَّى، وأن ذلك كان هو الدافع الحقيقي للرد على تلك الاستفزازات الغربية لتأكيد الندية والجاهزية، بأوضح تعبير. ومفهومٌ أن زيارات تشيني ورايس إلى تخوم روسيا ومواساة رجل أميركا هناك سكاشفيلي لن تنفع كثيراً في تغيير المعادلة الإقليمية القوقازية الجديدة التي تتحكم موسكو في مخرجاتها وفق ما بات يعرف بـ"مبدأ ميدفيديف" الجديد. وهو المبدأ الضمني الذي كرسه رد روسيا العنيف بغزو واحتلال أجزاء من جورجيا نفسها، وذلك لبث رسائل عديدة وصارمة إلى كل من يعنيهم الأمر مؤداها رغبة الدب الروسي في وضع حدٍّ لعقدين من التجاهل والفوقية الغربية، وأنه ليس جثة هامدة، بعد اليوم، مع كل انعكاسات ذلك على تقاطع قضايا عديدة أخرى تهم روسيا والغرب معاً، من إمدادات الطاقة والنفط والغاز وإمكانية استخدامها كأسلحة بيد موسكو إلى جانب ما لديها من أوراق ضغط مؤثرة أخرى في ملفات مثل إيران وسوريا والعراق، وإمكانية التعاون أو عدم التعاون فيها، أو في بعضها. والحال أن روسيا تريد أن تكون هناك ندية حقيقية في التعامل معها، على نحو يضع في الحساب قوتها الباطشة التي أثبتتها في حربها بالوكالة مع الغرب، عن طريق الرسالة الجورجية. وهي الندية التي يتضمنها "مبدأ ميدفيديف" ونقاطه الخمس التي تؤكد على أن روسيا لم تعد نمراً من ورق، بل هي قوة كبرى مستعدة دوماً للمواجهة، حماية لمصالحها على حدود مجالها القريب، وأبعد من ذلك مصالحها في أكثر من مكان آخر بعيد كالدفاع عن الشعوب الروسية في أي مكان حتى لو تعلق الأمر بأوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق وغيرها. وصولاً إلى حماية مصالحها في الشرق الأوسط، ومناطق أخرى بعيدة. ولاشك أن كل من لديه قدرة على الاستنتاج من جملة المؤشرات أعلاه يمكن أن يفهم الآن بيُسر أننا دخلنا في حرب باردة جديدة، سترتفع وتيرتها بانتظار اكتمال فصول نتائج الانتخابات الأميركية. تلك الانتخابات المفصلية التي تأخذ من التغيير شعاراً وواقعاً، والتي ينتظر الجميع بعدها رؤية نتائج التغيير الذي ما فتئ "الديمقراطيون" يعدون به من خلال إطلاق شعارات رنانة كثيرة، وكذلك "الجمهوريون" تحت أكثر من شعار، وخاصة الآن بعد ترشيحهم لسارة بالين على منصب نائب الرئيس مع مرشحهم جون ماكين، وهي التي تساءلت، للمفارقة: ما هو منصب نائب الرئيس؟ واعترفت بعدم إلمامها بتفاصيل وخلفيات حرب العراق، وتبدو عملياً كناشئة سياسية حقيقية، ما يجعل ترشيحها بمثابة ضربة كبيرة أراد من خلالها ماكين أن يثبت أن التغيير بالنسبة له ليس شعاراً بل هو قول وعمل حتى لو أوصل إلى البيت الأبيض نائبة رئيس لم تتعلم أصلاً أبسط أبجديات العمل السياسي، لتجد نفسها، بهذه الطريقة، على بعد خطوة واحدة من أن تصبح رئيسة محتملة للدولة الأقوى في العالم إذا ما حدث مكروه لماكين أثناء ولايته الرئاسية، هذا طبعاً إذا فاز في استحقاق 4 نوفمبر الانتخابي أصلاً. ولاشك أن اختيار "بالين" تحديداً يشكل مقامرة لا يجرؤ عليها الكثيرون، لأن افتقارها للخبرة والدراية والإلمام بالشأن الأمني، وبالسياسة الخارجية، يجعل تهماً كثيرة لطالما أشهرها "الجمهوريون" في وجه أوباما ترتد عليهم، بشكل تلقائي. ونعود مرة أخرى ومرات إلى تجاذبات الندِّية على مسارح دولية أخرى كمطلب وهدف للأوروبيين في تعاملاتهم مع الأميركيين وحديث وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنر التي ترأس بلاده الاتحاد الأوروبي، بشكل متزايد، عن سعي أوروبا لتحقيق نوع من الندية في تعاملها مع الإدارة الأميركية الجديدة. كما لم يفت الرئيس الإيراني الحديث عن ندية طهران مع واشنطن ومطالبة للرئيس الأميركي الجديد بتغيير سياسته الخارجية لتبدأ إيران صفحة جديدة تحوم حول صفقة ما بعد كل ذلك الصخب والمناورات والتصريحات التي تراجعت إلى حد ما عن خطر إيران منذ أن تفجرت أزمة القوقاز قبل شهر، وخرجت طهران وكأنها هي المستفيد الرئيسي منها. ويبقى أخيراً أن نشير إلى أن هذه المفاهيم الثلاثة المشار إليها في صدر المقالة: التغيير، والندية، والثقة المفقودة، ستبقى متداخلة ومتفاعلة ومتشابكة في واقعنا الراهن، وعلى المسرحين الإقليمي والدولي، لترسم شيئاً فشيئاً واقعاً جديداً يشكل نظاماً متعدد الأقطاب على مختلف المستويات قد نرى إطلالته ونتائجه قريباً، وقد ندفع أثماناً باهظة لتداعياته أيضاً. ولنتابع ولنرَ إلى أين سيأخذنا ذلك الثالوث المتداخل؟!