برايس: الأولى... والأخيرة!



الهدوء الاعتيادي في العاصمة الاسترالية كانبيرا، صباح الجمعة الماضي، ليس غير استمرار لروتين السير الطبيعي لنشاط المدينة الحيوية والمتحفزة دائماً، لكنه مع ذلك يخفي لحظة "صاخبة" بالدهشة وغير مسبوقة في تاريخ البلاد. فابتداءً من ذلك اليوم، أصبحت كوينتين برايس أول امرأة تتولى منصب الحاكم العام لاستراليا، وهو أعلى منصب في البلاد، وذلك بعد أن أدت القسم خلال حفل التنصيب الذي أقيم في مبنى البرلمان الفيدرالي في كانبيرا، وحضره عدد من الوزراء والنواب وكبار الشخصيات، يتقدمهم رئيس الوزراء الاسترالي "كيفن راد" وأعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدون لدى استراليا. وبذلك تصبح برايس الحاكم العام رقم 25 لاستراليا منذ استحداث هذا المنصب أوائل برايس: الأولى... والأخيرة! القرن الماضي. وقد أعلنت الحكومة الاسترالية قرار تعيين برايس في ابريل الماضي، عقب استقالة الميجور جنرال مايكل جيفري قبيل انتهاء ولايته. ومنذ تنصيبها يوم الجمعة الفائت، بدأت برايس تتلقى رسائل التهنئة من مختلف زعماء العالم، وذلك بوصفها الحاكم العام الجديد للكومنولث الاسترالي، أي ممثل الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا في استراليا.

وتعد كوينتين برايس إحدى السياسيات الاستراليات المرموقات، فقد تولت خلال السنوات الخمس الماضية، منصب حاكم ولاية كوينسلاند، الواقعة في الشمال الشرقي من استراليا، والتي تعد، من حيث المساحة والسكان، ثاني أكبر الولايات السبع ضمن الفيدرالية الاسترالية.

وقبل تعيينها حاكماً لكوينسلاند، عرفت برايس كناشطة في مجالات اجتماعية وإنسانية وحقوقية عدة، كما شغلت مناصب مختلفة، ومن ذلك تعيينها مديرة لمصلحة تكوين المرأة عام 1984، ثم رئيسة للجنة الوطنية لحقوق الإنسان وتكافؤ الفرص عام 1987... لكن قبل ذلك وأثناءه، كانت محامية لها صيتها في محاكم سيدني وكوينسلاند.

ولدت "كوينتين آليس لويس برايس آو"، عام 1942 في مدينة آيلفراكومب بولاية كوينسلاند، حيث عاشت طفولتها، قبل أن تلتحق بكلية القانون في جامعة كوينسلاند، والتي تخرجت منها لتصبح في عام 1964 واحدة من أوائل المحاميات في ولايتها. وفي ذلك العام أيضاً تزوجت من ميشيل بريس، ولهما معاً اليوم خمسة أبناء وخمسة أحفاد. لكن لا شيء اليوم في حياتها العائلية يشغلها عن العمل العام، وهذا ما أظهرته خلال توليها منصب حاكم ولاية كوينسلاند، فرغم محدودية السلطات التي يتمتع بها حكام الولايات، على غرار الحاكم العام على المستوى الوطني، إلا أن السكان كانوا يشاهدون برايس في مواقع كثيرة ويلاحظون حرصها على متابعة التفاصيل الصغيرة!

ويتوقع أن تحاول برايس إثبات كفاءة المرأة لتولي مناصب قيادية عليا، وأن تمارس مهامها بأسلوب مغاير تماماً لسلفها جيفري، والذي حرص غالباً على تجنب التورط في القضايا السياسية، أو اتخاذ موقف من بعض الموضوعات الخلافية أثناء فترته، وإن حاول التأكيد في مناسبات مختلفة على دوره التوفيقي كحاكم عام. أما برايس فلن تعيد إنتاج ذلك النهج، ولن تقوم بأداء واجبها من خلال التزام الصمت والجمود!

ومن الاهتمامات التي تشغل بال الحاكم العام الجديد لاستراليا، مسألة تحسين ظروف الوسط الريفي، وشروط الحياة الاجتماعية للمرأة، وإدماج السكان الأصليين؛ ذلك أن "روح استراليا الحديثة هي الإصغاء إلى أصوات الناس في الأرياف والجهات، وهي الإصغاء إلى الأشخاص الذين يريدون النهوض بحقوق النساء، وهي منح مكانة لائقة لمن يلتزمون بتحسين حياة الاستراليين الأصليين".

ويعود اهتمام برايس بعالم الريف أساساً إلى أن ولايتها كوينسلاند من أكثر الولايات الاسترالية التي يعتمد اقتصادها على القطاع الزراعي والرعوي. أما موضوع المرأة فهو أحد انشغالاتها الأثيرة، حيث يتضح من تاريخها المهني أن كل الوظائف التي شغلتها كانت ذات صلة بحقوق المرأة ومساواة الجنسين.

لكن فيما يتعلق بالسكان الأصليين (الأبوريجيين)، فمما يدل على أن الأمر يحتاج أكثر من مجرد كلمات، أنه من بين خمسة وعشرين شخصاً الذين تولوا منصب حاكم عام استراليا حتى الآن، وضمنهم برايس نفسها، لا يوجد شخص واحد من السكان الأصليين، بل كانوا جميعاً من ذوي الأصول الأوروبية (23 مسيحياً ويهوديان).

وقد وصل المستوطنون الأوروبيون الأوائل إلى استراليا، وهي أصغر قارات العالم وأحدثها اكتشافاً، في القرن الثامن عشر الميلادي، فأعلنت الإمبراطورية البريطانية ضمها إلى التاج البريطاني عام 1770، وأقام المهاجرون الجدد مستوطنة بريطانية تحولت إلى مدينة "سيدني" في عام 1787. وفي ظل الوجود الأجنبي الجديد، تناقصت أعداد الشعب الأصلي بسبب التطهير العرقي، أو الإبادة الجماعية، أو ظهور الأمراض المعدية، إلى جانب سوء المعاملة على أيدي المستعمرين الأوروبيين.

وخلال نحو مائتي سنة فقط، تحول سكان استراليا الأصليون، وهم صانعو واحدة من أجمل وأقدم الحضارات القديمة، إلى أقلية تعاني اليوم من الفقر والبطالة والأمية والمرض... فماذا بوسع الحاكم العام الجديد لاستراليا فعله؟

ربما يمكن القول إن الحاكم العام هو بمثابة رئيس الدولة، وهو يتمتع بمجموعة من السلطات؛ مثل تعيين بعض الوزراء ورئيس المحكمة العليا، والموافقة على قرار حل البرلمان، وحق التحفظ على مشاريع القوانين، ومراقبة الانتخابات التشريعية، ومنح الأوسمة والتوشيحات، كما يرأس مجلساً تنفيذياً، ويعتبر القائد الأعلى للقوات المسلحة... كل تلك المهام يمارسها الحاكم العام وفقاً للدستور الاسترالي، وباسم الملكة, لكنها رغم ذلك سلطات بروتوكولية وشرفية إلى حد بعيد. فمن الناحية العملية، نجد أن رئيس الوزراء هو القائد الفعلي وهو من يختار الحاكم العام نفسه، مقترِحاً إياه على ملكة بريطانيا كي تعتمده ليصبح حاكماً بالفعل، لولاية مدتها خمس سنوات، لا توجد قيود دستورية على تجديدها.

وإذا كانت برايس أول امرأة تشغل هذا المنصب، فقد تصبح آخر من يتولاه على الإطلاق، إذ أثار رئيس الوزراء الحالي ورئيس حزب "العمال" الحاكم، فكرة إعلان الجمهورية مراراً، واستفتاء الشعب الاسترالي على فصل المستعمرة البريطانية السابقة عن التاج البريطاني... لكن مع التأكيد المتكرر على أن الأمر لا يمثل أولوية لحكومته، وإنما لديها العديد من الأولويات الأخرى، وهي أولويات لا تبدو مختلفة كثيراً عن الأولويات التي تثيرها برايس، مما يعزز فرص الانسجام والتعاون لصالح الريف والمرأة والأبوريجيين!



محمد ولد المنى