في مجتمعاتنا العربية الإسلامية المعاصرة، المتهمة بالانحراف والجاهلية، تحتل الأفكار والمثل والعقائد الدينية مساحة هائلة من حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والقانونية وحتى الاقتصادية. الأحزاب الإسلامية، الكتب الإسلامية، البرامج الإسلامية في الراديو والتلفاز، الجمعيات الإسلامية من كل لون، المصارف والشركات الإسلامية، الأحاديث والعبارات المتبادلة المعجونة بالمصطلحات الدينية، المعارك الفكرية والاختلافات في أحيان كثيرة ذات صبغة أو منطلقات دينية. معركة الجماعات الدينية وأحزاب "الإسلام السياسي" أنها تعتبر كل هذا دون المطلوب، وأن الجماعات الليبرالية والتيارات العلمانية، لابد أن ترفع الرايات البيضاء في كل مجتمع من مجتمعات العالم الإسلامي، وتنسحب من الحياة بشكل كامل، أو تنزوي في ركن معزول، كي تتولى أحزاب "الإخوان" و"الجهاد" و"السلف" و"التحرير" و"الإنقاذ" وغيرها، قيادة العالم العربي والإسلامي في المراحل القادمة، وربما إلى الأبد إنْ أمكن. بدأ هجوم "الإسلام السياسي" على العالم العربي بعد هزيمة يونيو 1967، ومنذ أربعين عاماً على وجه التقريب، ونحن نعايش تصاعد المد الديني وتراجع كل القوى المنافسة على كل صعيد. صرنا في دول ومجتمعات عديدة محاصرين بين مطرقة التشدد الديني، وأوضاع فاسدة قائمة، مستبدة، معادية للتطور والتغيير، من الداخل ومن الخارج، بيدها أو بيد عمرو أو حتى بيد زيد! هذا التيار الزاحف علينا إسلام سياسي حزبي حقاً. تيار لا يدرك موازين القوى في العالم، ولا يعرف حال العالم العربي والإسلامي، ولا يتصور التحديات المطروحة في وجهنا منذ عقود طويلة. وحتى عندما أتيحت له فرصة الحكم والهيمنة في بعض البلاد فشل في أن يرتقي بتلك الدول العربية والإسلامية إلى مصاف البلدان شبه المتقدمة! بل الكثير من القيادات الإسلامية الحزبية اكتشفت ضياع هذا التيار! يقول د. إسماعيل الشطي، أحد الإخوان المسلمين القياديين السابقين، ورئيس التحرير السابق لمجلة "المجتمع" الإسلامية في الكويت ما يلي: "التيار الإسلامي لا يملك رؤية سياسية للواقع، ولا يولي العمل السياسي والفكر السياسي أهمية كبيرة بقدر ما يولي الفكر التربوي أو الفكر الحزبي أو الفكر الفقهي... التيار الإسلامي حتى الآن ليست له رؤية واضحة حول النظام الدولي، تاريخياً الرؤية السياسية للنظام الدولي قائمة على أساس فكرة دار الحرب ودار الإسلام، الآن قائمة على ماذا؟ كيف ينظر التيار الإسلامي حالياً إلى النظام الدولي وعلى أي أساس؟ نحن نؤمن بدولة العقيدة بمعنى أن المواطنة يكتسبها المرء بانتمائه للعقيدة وليس بانتمائه للرقعة الجغرافية، بينما الآن كل الدول قائمة على أساس فكرة الدولة القومية القائمة على أساس الرقعة الجغرافية والعنصر القومي، ما موقفنا من ذلك؟ من المفروض أن يكون للعاملين في الإسلام برلمان لمدة ثلاثة أيام يعصرون أذهانهم فيه ويقولون ما يريدون، فقط لكي يستمعوا إلى بعضهم البعض". إن أغلب العاملين في الحقل الإسلامي اليوم، يقول د. حسان حتحوت عضو سابق معروف في حركة "الإخوان" المصرية، "مازالت على أعينهم غشاوة تحجبهم عن الرأي الإسلامي الصحيح في ما يتعلق بالمرأة". أما غالبية مسلمي الأرض في الوقت الحاضر، فيصفها "أخ" مسلم ثالث هو د. محمود أبوالسعود، بأنها "من أجهل الشعوب وأفقرها". وهذا وصف دقيق لواقع مجتمعات العالم الإسلامي، حيث تعاني من انتشار الأمية وازدحام طلابي هائل في فصول التعليم العام والجامعي- بما في ذلك بعض الدول الإسلامية الغنية بالمناسبة!- وبمتوسط دخل سنوي يقل عشرين أو ثلاثين أو أربعين مرة عن البلدان المتقدمة! لقد تضاعف حجم التيار الإسلامي في هذه المجتمعات، وانضمت إلى صفوفه الآلاف والملايين، وصارت بيده الجمعيات المهنية والبرلمانات، وعشرات بل مئات المليارات من الدولارات. ولكن هل ارتقت مجتمعاتنا دينياً وأخلاقياً وورعاً وتقوى بنفس النسبة؟ هل تراجعت مشكلة المخدرات مثلاً في دول الخليج ومصر وايران وأفغانستان وباكستان؟ وهل انخفضت نسب الانحراف والتفكك الأسري والجريمة؟ هل العرب والمسلمون اليوم أكثر تفهماً للتحديات التنموية وأهمية رفع الإنتاجية وخطورة المنافسة الاقتصادية التي تهدد اقتصادياتهم السائرة على بركة الله! كيف يمكن مثلاً للدول الخليجية أن توائم بين الاعتماد السياسي والعسكري والبترولي والاستثماري والإعلامي على الغرب، والدعم المجاني الساذج أو المخطط الذي تقدمه للتيار الديني؟ أم أن الدول الغربية والولايات المتحدة نفسها أدركت أن جماعات الإسلام السياسي أقوى وأدوم من الحكومات وأولى بالمخاطبة... وطلب اليد؟! وكيف يمكن لعموم بلدان العالمين العربي والإسلامي الجمع بين تغيير مواد الدستور وأسلحة القوانين وسحق القيم الليبرالية وحقوق المرأة من جانب، والانفتاح السياسي والاقتصادي والإعلامي على العالم الخارجي في عصر العولمة من جانب ثانٍ؟ نحن في الواقع ننتحر ببطء، نخنق أنفسنا بأيدينا، نقضي على نسائنا في البداية كما تستدعي طقوس لحظة الهزيمة والانتحار. نحن نغوص في ماضينا بأمل الوصول إلى مستقبلنا، ونفتح كتب الأقدمين لنطالع حظنا المجهول عندما نلتفت شرقاً نجد الهند والصين واليابان، وعندما نلتفت شمالاً نجد أوروبا، وفي الغرب البعيد والقريب، نجد الولايات المتحدة. الكثير من صناعاتنا باتت مهددة من ارتفاع وتيرة الإنتاجية الصينية، فيما نحن غارقون في الحديث عن المزارعة والمرابحة وأنواع الزواج . العديد من الدول العربية صارت تحلم بتصدير منتجاتها الزراعية والصناعية إلى أوروبا واستقبال سياحها صيف شتاء. الدول العربية بموقعها الجغرافي ومستقبلها التنموي وواقعها الاستثماري وبالطبع بدورها الكبير في الإنتاج النفطي جزء لا يتجزأ من هذه الكتل المتقدمة الثلاث ولكنها في الواقع بعيدة عنها.. ومعادية لها. الإعلام العربي الذي ينشغل كل العالم بأحداث منطقته، ويتحاور حول واقعه ومصيره، بينما يهيمن الصراخ عليه، والمبالغة والأفكار القديمة والاعتبارات الكهنوتية! العداء القومي والديني الموروث ضد سياسات أوروبا وأميركا وضد المسيحية واليهودية وضد "الحلول السلمية الانبطاحية" وضد هيمنة الشمال الغني على الجنوب الفقير، أفكار الأحزاب الشيوعية والإخوان المسلمين والسلف وحزب الله، وبكداش وعفلق وعبدالناصر، وبن بيلا وهيكل وهويدي، لا تزال كلها طاغية على صفحات الجرائد والكتب العربية التي نادراً ما ينافسها كتاب مترجم، ولا تزال تقودنا إلى المهالك! عشرون دولة عربية لا توجد بها شركة واحدة قادرة على أن تكون مستقلة شفافة مؤثرة في الحياة السياسية والإنتاجية. مليارات النفط تتدفق على دول الخليج وشمال أفريقيا دون أن تتحول هذه إلى دول صناعية، وتنهال كذلك على إيران وإندونيسيا ولا تزال كل منهما عاجزة عن تحقيق نصف المعجزة الكورية... دع عنك اليابانية! المرأة العربية موجودة بأعداد محدودة في سوق العمل، وبأعداد كبيرة كاسحة في الأسواق التجارية! ولولا دعم الحكومات وإعطاء الوظائف في مهن التدريس والتمريض والسكرتارية للنساء، لخلت منهن الشوارع ومجالات العمل! الكل يعرف أن الحكومات لن تنقذنا مما نحن فيه، ولكن هل تنقذنا جماعات "الإسلام السياسي"؟