في واحد من آخر الأحاديث التي أدلى بها، تحدث "ماكين" عن آماله حول مستقبل العراق، وهي الآمال التي ظهرت حين قمنا مؤخراً بجولة في البصرة مصحوبين بجنود من الجيش العراقي وبضعة مستشارين من قوات التحالف، حيث لمسنا نموذجاً لعراق ما بعد أميركا يحسن بالمرشحين "باراك أوباما" و"جون ماكين" النظر إليه والتمعن في مضامينه. هذا النموذج الذي تتحدد معالمه بوجود قوات أمن عراقية قادرة على تولي الأمور بدعم من التحالف، وبحكومة عراقية ذات ثقة أكبر بنفسها، فضلاً عن تجاوز الطريقة السطحية التي تتم بها مناقشة شؤون العراق في واشنطن والمتأرجحة بين البقاء في العراق والخروج منه كلياً. فرغم انشغال إدارة الرئيس بوش بالتوصل إلى اتفاق ينص على انسحاب القوات الأميركية بحلول 2012، فإنه من المهم معرفة الطريقة التي سيتم بها هذا الانسحاب. وهنا تبرز البصرة كنموذج لما يمكن أن تكون عليه استراتيجية الخروج. ففي أعقاب الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003، سُلمت السيطرة الأمنية على الجنوب للقوات البريطانية، لكن في ظل غياب قوات كافية سرعان ما تدهور الوضع الأمني في البصرة، حيث انسحب البريطانيون واكتسحت المدينة الميلشيات الشيعية. وعندما أطلق رئيس الوزراء، نوري المالكي، حملة عسكرية في شهر مارس الماضي لتطهير المدينة من الميلشيات، اعترضت القوات العراقية صعوبات كبيرة كادت تفشل جهودها لولا تدخل القوات الخاصة الأميركية ومستشاري العمليات القتالية الذين عززوا صفوف الجيش العراقي وأمدوه بالدعم الجوي والمعلومات الاستخباراتية، فضلاً عن الاستطلاع والمراقبة. فجاءت النتيجة لصالح القوات العراقية التي قلبت الكفة لصالحها وأعادت فرض سيطرتها على المدينة. والواقع أن الدرس المستخلص من تجربة البصرة واضح لا لبس فيه، ومفاده أن أي انسحاب سريع من العراق يهدد بعودة العنف والتمرد، فيما الانسحاب المتأني والمسؤول وإعادة توجيه مهمة القوات الأميركية بعيداً عن القتال وقصره على تقديم الاستشارة للقوات العراقية، يوفر فرصة جيدة لدعم مصالحنا في العراق بكلفة معقولة. وبمقتضى هذا النموذج، سيقدم المستشارون العسكريون المنخرطون مع الجيش العراقي ما يكفي من مساعدات يحتاجها العراقيون في ساحة المعركة، لكن دون عرقلة تطور تلك القوات، أو ترسيخ فكرة الاحتلال الغربي. ومع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن عملية الانتقال إلى النموذج المطلوب تنطوي على بعض الخطورة، لاسيما لجهة تعرض المكتسبات الأمنية إلى انتكاسة إذا فشل العراقيون في إبرام تسوية سياسية حول الانتخابات وعوائد النفط والمناطق المتنازع عليها. ويمكن أيضاً للصراع الطائفي أن يعود مجدداً إذا أخفقت الحكومة العراقية، ذات الغالبية الشيعية، في استيعاب "أبناء العراق" السنة الذين يشكّلون حوالي 100 ألف من المتطوعين، وبعضهم من المتمردين السابقين، ممن حملوا السلاح ضد "القاعدة". ويبقى التحدي الأكبر أمام أميركا هو تراجع نفوذنا في العراق بعد الشعور المتنامي بالثقة لدى حكومة المالكي ورغبتها في تأكيد سيادتها. ويظهر ذلك بشكل أوضح في مطالبة الحكومة العراقية بعلاقة ثنائية جديدة مع واشنطن تفرض مزيداً من القيود على القوات الأميركية وتضع حدوداً زمنية لبقائها. ويضاف إلى ذلك المفاوضات الجارية بين الحكومة العراقية وواشنطن للتوصل إلى اتفاق إطار أمني يبدو أنه يتجه نحو وضع جدول زمني لانسحاب القوات الأميركية والتحول من دور محوري في العمليات القتالية إلى دور المساندة. وفي هذا السياق، هناك أمران علينا القيام بهما وأمر واحد علينا تجنبه؛ أولاً علينا تبني سياسة تقوم على استراتيجية الدعم المشروط على الصعيد الرئاسي. فخلال السنيتين الماضيتين تم تكريس نظرة الدعم غير المشروط لرئيس الوزراء، نوري المالكي، من خلال اللقاء الذي أجري عبر الدائرة التلفزيونية المغلقة مع الرئيس بوش، وهو أمر حان الوقت لتغييره. لذا يتعين على الرئيس المقبل أن يوضح أن أميركا لا تساند شريحة معينة من القادة العراقيين بقدر ما تساند النظام ككل، كما يجب أن يرتهن دعمنا المالي والعسكري بمدى التقدم الحاصل في الإدماج السياسي وتحسين عمل الحكومة. فمازال أغلب القادة العراقيين في حاجة إلى الضمانات الأمنية والدعم التقني للوزارات العراقية، فضلاً عن المساعدة في المفاوضات حول الديون العراقية... لكن ذلك لن يتم إلا إذا ارتبط مباشرة بالتقدم الملموس الذي تحرزه الحكومة. أما الأمر الثاني الذي يتعين على واشنطن القيام به، فيتمثل في استغلال النفوذ الأميركي الذي مازال قائماً في أوساط قوات الأمن العراقية. ففيما يبدو المالكي وآخرون أكثر ثقة في الحكومة، تبقى الحقيقة هي أن العمليات العراقية الأخيرة في البصرة ومدينة الصدر والموصل، لم تكن لتنجح لولا الدعم العسكري الأميركي. فبخلاف الخطاب المعلن، يعرف أغلب العراقيين أنهم غير قادرين على توفير الأمن الداخلي، ومحاربة الإرهاب وصد الأخطار الخارجية دون استمرار الدعم الأميركي. ومع الأسف هناك بعض التقارير المثيرة للقلق التي تشير إلى مواصلة الحكومة العراقية ملاحقتها لمجالس الصحوة والمماطلة في إدماجها بالقوات العراقية. وإذا أصر المالكي على أجندته الطائفية فلابد من تقييد دعمنا التقني واستشاراتنا العسكرية. وأخيراً من المهم للرئيس المقبل أن يرسل إشارة واضحة للعراقيين بأنه لا ينوي البقاء في بلادهم على غرار النموذج الكوري، فرغم أن معظم العراقيين يريدون استمرار الدعم الأميركي لسنوات قادمة، فإنهم يكرهون حضوراً أميركياً يتجاوز المهام الاستشارية. جون ناجل ضابط سابق في الجيش الأميركي -------------- كولن كاهل أستاذ الدراسات الأمنية بجامعة جورج تاون الأميركية ----------------- شون بريملي باحث في مركز الأمن الأميركي الجديد ------------------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"