ليس هناك أصعب على العالم اليوم من فقدانه مناعته الاقتصادية ودخوله مرحلة من الركود قد تنهي فترة الازدهار التي ميزت ربع قرن الأخير. لكن هذا الاحتمال المتشائم، بالنظر إلى مشاعر الخوف التي يبثها لدى الاقتصاديين وصناع القرار السياسي على السواء... هو ما يحذر منه الكاتب والمحلل الاقتصادي "ديفيد سميك" في كتابه الذي نعرضه هنا، وعنوانه "العالم محدب: الأخطار الخفية على الاقتصاد العالمي". فخلافاً لكتاب "توماس فريدمان" الشهير "العالم مسطح" الذي يشير إليه "سميك" بكثير من الإعجاب، يرى الكاتب أن العالم كما نعيشه ليس مسطحاً كما يدعي فريدمان، ويخصص كتابه لتوضيح السبب. فحسب "فريدمان" تمددت حركة العولمة لتربط شركات تكنولوجيا المعلومات في أميركا مع نظيرتها الصاعدة في الهند، وبينها وبين القرى الشمالية في الصين. لكن إذا كان "فريدمان" قد انطلق في ترويجه للعولمة ودفاعه عن منجزاتها ومكاسبها من الفرص الهائلة التي تتيحها بفضل سلاسة تدفق السلع والخدمات، ما دفعه إلى اعتبار العالم "مسطحاً"، فإن "سميك" يرى أن العالم لاسيما عندما يتعلق الأمر بالأسواق المالية التي هي أحد الأدوات الرئيسية للعولمة، محدباً، بل وشديد الالتواء، تحفه المنعرجات الخطيرة وغير المتوقعة. فخلافاً للاقتصاد الذي ينتج السلع والخدمات لا شيء في أسواق المال العالمية يسير في خط مستقيم، بل تتميز تلك الأسواق، كما يقول الكاتب، بسلسلة مستمرة من الانقطاعات ومن المفاجآت ولحظات الشك والارتياب التي تقلب أحياناً المنطق الاقتصادي وتسير في غير الاتجاه المتوقع. ويواصل الكاتب شرح نظرية العالم المحدب في مجال الاستثمار المالي، بالتأكيد على أنه لا يمكن في ضوء النظام المالي العالمي استشراف المستقبل البعيد، أو إجراء حسابات دقيقة تتجاوز الأفق المحدود. ويشبه الكاتب الواقع المالي حالياً بالسفر في طريق مليئة بالمنعرجات الخطيرة والمنعطفات غير المنتظرة التي تأخذنا من المنحدرات السحيقة إلى القمم الشاهقة. والحقيقة كما يوضح الكاتب أن الأسواق المالية كانت متذبذبة على الدوام وهي لذلك تتميز بهشاشة عالية قد تخسف بها في لحظة وجيزة وغير منتظرة من الذرى إلى الحضيض، كما أنها على مدار السنوات الماضية كانت عرضة للاضطرابات القوية بسبب انعدام اليقين من جهة والافتقار للمعلومات الدقيقة من جهة أخرى. لكن في الاقتصاد العالمي الجديد الذي تطغى عليه السيولة الكبيرة الباحثة عن منافذ للاستثمار، تتضاعف حالة عدم اليقين وتزداد هواجس الشك وآثارها المدمرة على مجمل الاقتصاد العالمي. فقد ظهرت في السنين الأخيرة صناديق كبرى تنافس على الفرص الاستثمارية، وبتنامي الأساليب المعقدة للاستثمار، مثل المتاجرة بالديون وبيعها لمؤسسات مالية أجنبية، لم يعد ممكناً تتبع التدفقات المالية عبر العالم، أو معرفة وجهتها على وجه التحديد. وأمام هذا التشابك الاستثماري في الأسواق المالية العالمية، تكتسي المعلومة أهمية حيوية، وباتت قواعد الشفافية في المعاملات المالية للبنوك واستثماراتها ضرورية لسلامة وصحة النظام المالي. وأكثر من ذلك، يثير الكاتب مخاوف حول قدرة النظام المالي الحالي الذي تغذيه العولمة وسرعة انتقال رؤوس الأموال والسلع على الاستمرار لمدة أطول، لاسيما في ظل التسارع الكبير لآليات العولمة والتدفق الهائل لرؤوس الأموال اللاهثة وراء الاستثمار والربح. فحسب استطلاعات الرأي التي تقوم بها المؤسسات المختصة، سُجلَ تراجعٌ في دعم التجارة الخارجية باعتبارها سبب الصعوبات الاقتصادية التي يعاني منها الأميركيون، كما أن أزمة الرهن العقاري التي جاءت لتثبت هشاشة النظام المالي العالمي، لا تساعد في استتباب الاستقرار المالي. ويبقى الأخطر في نظر الكاتب هو غياب القراءة التاريخية للواقع المالي العالمي، إذ غالباً ما ينظر المواطنون إلى الرخاء الاقتصادي على أنه معطى ثابت غير قابل للتغير، في حين لو رجعوا قليلاً بذاكرتهم إلى الماضي القريب لطالعتهم الصفوف الطويلة أمام محطات البترول خلال السبعينيات، وهي الفترة التي سبقت مرحلة الاقتصاد المعولم الراهنة. ويضيف الكاتب في معرض تحذيره من سقوط النظام المالي العالمي، أن صناع القرار اليوم قد يتبنون، بوحي من الطبيعة الهشة للاستثمارات المالية واتقاءً لحالات الطوارئ، سياسات سلبية لتنظيم السوق المالية وفرض قيود عليها قد تفضي دون قصد إلى تقويض النظام المالي وتتسبب في أزمة اقتصادية عالمية. ويرجع بنا المؤلف مرة أخرى إلى كتاب "فريدمان"، مؤكداً أنه قدم صورة مشرقة عن العولمة في أحد جوانبها فقط، دون أن يميط اللثام عن وجهها الآخر والمتمثل في الجانب المالي من القصة. وعلى سبيل المثال، يحيلنا الكاتب إلى أزمة الديون عالية الخطورة التي انفجرت في الولايات المتحدة خلال هذه السنة، وانتقالها إلى بلدان أخرى، مشيراً إلى إحدى القرى في النرويج والتي تعرضت لانتكاسة مالية بعد استثمارها المكثف في أحد المنتجات الاستثمارية للمصرف الأميركي المعروف، "سيتيجروب". لكن عندما اندلعت أزمة سوق السكن في الولايات المتحدة ارتفعت الالتزامات الائتمانية للمستثمرين ما أدى في النهاية إلى إغلاق مدارس الحضانة ومراكز رعاية المسنين في القرية النرويجية المنكوبة. زهير الكساب ــــــــــــــــــــ الكتاب: العالم محدب: الأخطار الخفية على الاقتصاد العالمي المؤلف: ديفيد سميك الناشر: بورتفوليو تاريخ النشر: سبتمبر 2008