في صيف عام 1918، عندما كانت الأمراض الفتاكة مثل السل الرئوي والأنفلونزا الوبائية تهدد المدن الأميركية المكتظة بالسكان الجدد، أخذ الكيميائي "تشارلز هيرتي" صديقه "جي. أر بيلي" في جولة بين شوارع نيويورك. وأثناء الجولة طرح "هيرتي" سؤالاً مهما: ماذا لو اكتشفنا دواءً فعالا لكل هذه الأمراض؟ وما هي المؤسسة التي ستسمح لنا بنقل الاختراق العلمي من مختبر التجارب إلى العالم أجمع؟ ذلك السؤال الذي تعذرت الإجابة عنه وقتها، دفع "هيرتي" إلى اقتراح حل عبقري تمثل في إنشاء مؤسسة تكمن مهمتها الأساسية في تشجيع البحث والتطوير في مناطق الولايات المتحدة لتستمد المؤسسة الجديدة أهميتها من قدرتها العالية على "تحفيز البحث العلمي والاكتشافات الجديدة". وبعد قرن من الزمن تحول المقترح إلى إحدى أهم المؤسسات الأميركية الداعمة للبحث العلمي في المجال الصحي والمتمثلة في "المعهد الوطني للصحة"، والذي يعتبر سجله الحافل في مجال فك شفرة الخريطة الجينية للجنس البشري، أكبر دليل على دوره الرائد في دعم الابتكار العلمي. لكن الخطر المحدق بنا اليوم في الولايات المتحدة، لم يعد متأتياً من الأمراض الفتاكة التي تم الحد من انتشارها، بقدر ما بات قابعاً وراء تدهور النظام التعليمي. ففي المناطق الحضرية هناك طفل من بين كل خمسة أطفال يفتقرون إلى مهارة القراءة، وفي الاختبارات الدولية تحتل الولايات المتحدة مرتبة متأخرة وراء جمهورية التشيك ولاتفيا، كما أنها على سلم معيار التخرج من الثانوية العامة بالكاد تصل إلى المرتبة 20 عالمياً. وقد عبر عن هذا الواقع التعليمي المتردي المعلق "ديفيد بروكس" مؤكداً أن تقدم التعليم كان بطيئاً إلى درجة أن "الريادة الأميركية في المجال الاقتصادي باتت في خطر". وإذا كان القصور في المنظومة التعليمية قد لا يهدد حياة الأطفال مباشرة، كما هو الحال بالنسبة للأمراض الخطيرة، فإنه يهدر الحياة ويضيع الفرص. ورغم كل الجهد الذي يبذله مدرسونا، يبقى نظامنا التعليمي غير قادر على مواكبة متطلبات القرن الجديد. وبينما يتهيأ فيه رئيس أميركي جديد لدخول البيت الأبيض، تبرز فكرة "هيرتي" مرة أخرى كمصدر لاستلهام الحلول. فنحن في حاجة اليوم إلى أسلوب مغاير في التفكير داخل وزارة التعليم، يقوم على وضع الأهداف وقياس النتائج، فضلاً عن اعتماد الأفكار والمناهج الجديدة، وهنا يبرز الدور المحوري للحكومة الفدرالية المؤهلة أكثر من غيرها للوقوف وراء المبادرات الرائدة ودعمها. والواقع أنه لا تنقصنا الأدلة على ضرورة دعم المبادرات الحرة والجريئة في مجال التعليم على أن تكون منبثقة من تجارب أثبتت نجاحها مثل تلك التي تشرف عليها المبادرات التعليمية الخاصة في الولايات المتحدة، تلك التي تتبنى مبادئ المحاسبة والحرية. والحقيقة أن أصحاب تلك المبادرات غير الربحية، والذين تحركهم الرغبة في النهوض بالتعليم في محيطهم الاجتماعي، يعملون، كلما أتيحت لهم الفرصة، مع السلطات المحلية وبعض مدراء المدارس المتنورين، لتحقيق أهدافهم. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى مجموعة من التجارب الناجحة عبر مختلف المدن الأميركية، مثل "المدارس الفريدة"، و"أسباير"، و"مؤسسة التعليم في أحياء المدن"... وغيرها من المبادرات التي تركز على تحقيق التميز وتستهدف الطلبة المنحدرين من شرائح فقيرة. وتقوم الفكرة الأساسية لتلك المدارس النموذجية على فتح المجال أمام الطلبة لولوج الجامعات واختيار وظائف المستقبل، بصرف النظر عن الأصول الاجتماعية للمنتسبين، لأن الهدف هو تجويد التعليم وإعداد الطلبة للحياة الجامعية. وقد تمكنت المدارس الجديدة من منافسة المدارس الخاصة في إلحاق أكبر عدد من الطلبة الفقراء بالجامعات الأميركية الكبرى، بفضل تفوقهم الأكاديمي وحصولهم عن منح دراسية. وفيما ركزت بعض المدارس على الطالب باعتباره جوهر العملية التعليمية، ركزت مدارس أخرى على توظيف مدرسين أكفاء واجتذاب الكفاءات، حتى ولو كانت المدارس في مناطق فقيرة. وبالمثل قامت مبادرات تعليمية على استهداف قيادات جديدة، باستقدام مدراء متميزين إلى المدارس ومراقبة أدائهم باستمرار. وقبل التسرع في إطلاق الأحكام السلبية على هذه المبادرات والمدارس النموذجية، تتعين الإشارة أولاً إلى أن الحكومة الفدرالية، ومن خلال مجموعة من المؤسسات، استطاعت دعم تلك المبادرات ومضاعفة التجارب الناجحة. ومع ذلك مازال الكثير أمام الحكومة للقيام به، لاسيما وأنها تقاصرت خلال السنوات الأخيرة في مجال الاستثمار في التعليم. ولمعالجة هذا الوضع وتحفيز الانخراط الحكومي في النهوض بالمبادرات التعليمية الجديدة، لا بد أولاً من توسيع تلك المبادرات ورفع الشروط المجحفة أحياناً، والتي تفرض عليها للحصول على التمويل. ففي أحيان كثيرة تنفق المدارس النموذجية قدراً كبيراً من الجهد والوقت لجمع المال الضروري لاستمرارها، لذا من شأن الدعم الحكومي، مع تكثيف المراقبة والمحاسبة، أن يحل مسألة التمويل ويساعد المدارس النموذجية على البقاء والاستمرار في تقديم خدمتها للمجتمع. لكن الدعم الحكومي لا يقتصر فقط على التمويل، بل يتجاوزه إلى التقليل من الإجراءات والقيود المفروضة على المدارس النموذجية مثل تلك التي تضع سقفاً معيناً على عدد المدارس المسموح به في كل منطقة، أو القيود التي تحيط بعملية توظيف المدرسين وتدريبهم، أو الترخيص لهم بالعمل. وأخيراً يتعين على الحكومة توحيد المعايير المرتبطة بالمهارات التي يتعين اكتسابها من قبل الطلبة، بحيث يستحق كل طفل أميركي نفس المعايير العالية للتعليم التي يتمتع بها أقرانه في المدارس الخاصة. ــــــــــــــ كوري بوكر عمدة "نيويورك" ــــــــــــــ جون دوير، وتيد ميتشيل مختصان في مجال التعليم ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"