من أهم ما يلفت نظر العائد إلى المنطقة العربية بعد نهاية الصيف، هو الاختلاف بين ما يشغل بال الشارع العربي وما يشغل بال الشارع الغربي. بصفة عامة تتغير اهتمامات الشارع العربي كثيراً من فلسطين أو العراق أو إيران، إلى غلاء الأسعار أو أفول ربيع الإصلاح العربي.. أما الشارع الغربي، فينظر إلى أبعد من منطقته الجغرافية، فهو يهتم بأولمبياد بكين الأخيرة، يهتم بالتفاصيل التي قد تدهش المراقب العربي، من تطور الأرقام القياسية في الألعاب المختلفة، إلى تاريخ اللاعبين وأعمارهم. أعترف أن هذا الاهتمام والمتابعة دقيقة بدقيقة أدهشني، لكنه أعجبني أيضاً، لأن المجتمع الذي يهتم بالرياضة على هذا النحو، دون أن يكون له فريق فائز، هو مجتمع صحي مستعد أن يستثمر في تكوين الفرق الرياضية وحماية شبابه من الانحراف. الموضوع الآخر الذي شغل بال قطاع كبير من الشارع الغربي هو غزو روسيا لجورجيا، فالشارع الغربي في مجمله يشعر بنوع من عدم الثقة إزاء روسيا، ليس فقط بسبب ماضيها الشيوعي، ولكن حتى قبل انتصار الثورة البلشفية عام 1917 كان هناك تاريخ طويل من التورط الروسي في شؤون أوروبا لازال يلقي بظلاله على نظرة الأوروبيين لروسيا. لكن ما لفت نظري هو أن الجزء الأكبر من الشارع الغربي، حاول تجاوز الحدث في حد ذاته لمناقشة دلالاته وتداعياته، وكان الرأي الغالب هو أننا إزاء الحرب الباردة مجدداً، بل إنه في مناقشة داخل بيت أحد الأصدقاء الفرنسيين كان هناك من رأى أن الحرب لم تنته أصلاً. كل ما حدث هو أن هناك هدنة حتى تسترد روسيا أنفاسها لكي تواصل هذه الحرب! قد يبدو هذا الرأي على السطح إبداعياً وحتى جذاباً، لكن الحقيقة هي أن الحرب الباردة انتهت فعلاً عام 1991. وخلافاً للرأي الغالب في الإعلامين العربي والغربي حالياً، فإننا لا نعود إلى الحرب الباردة. الاتحاد السوفييتي نفسه اختفى، ليس فقط كقوة أعظم، بل أيضاً كعقيدة عالمية تجسد نموذجاً لتطور المجتمعات، وكنموذج مناوئ للنموذج الرأسمالي. بل إن جوهر الحرب الباردة كان هذه المنافسة العقائدية التي تعرف بالصفرية، بمعنى "إما أنا وإما أنت"، والمنتصر يأخذ كل شيء، والمهزوم يفقد كل شيء، ولا شيء بينهما. كان هذا سبب شيوع مقولة "نهاية التاريخ"، بمعنى استقرار الرأسمالية كنموذج أوحد. كما أن نموذج الحرب الباردة ارتكز ليس على دول وإنما على كتلتين؛ الكتلة الشرقية الاشتراكية والكتلة الغربية الرأسمالية، وكانت كل منهما تشكل منظومة مغلقة إزاء الأخرى. هذا الوضع لم يعد موجوداً الآن، فكثير من دول الكتلة الاشتراكية التحقت بالاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو"، كما أن روسيا نفسها تتطور حسب قواعد الرأسمالية حيث فتحت أبوابها للقطاعين الخاص المحلي والأجنبي وتحاول جذب الاستثمار الخارجي. وباختصار شديد، كانت إحدى السمات الرئيسية للحرب الباردة ما سماه تشرشل "الستار الحديدي" الفاصل بين الشرق والغرب. هذا الستار لم يعد حتى ورقياً. نستطيع الاستمرار في رصد الاختلافات بين منظومة الحرب الباردة (1645 -1990)، وهيكل السياسة العالمية الآن. لكن السؤال المهم: ما هو فحوى النظام العالمي المعاصر؟ إنه منافسة دولية وصراعات شهدها التاريخ كثيراً في فترات ما قبل الحرب الباردة. الصراع من أجل مناطق النفوذ والمحافظة على وضع متميز في ميزان القوى العالمي، قائم على صراعات بين دول وليس بين كتل. روسيا تحاول إرسال رسالة قوية إلى جيرانها بألا تكون معبراً لحصار أميركي، وتحاول أن تثبت نفسها دولياً بعد أن استهانت بها أميركا كما بينت أزمة استقلال كوسوفو أو الدرع الصاروخية في بولندا، وهي تستغل فترة الضعف الأميركي النسبي بسبب التورط في العراق وأفغانستان أو الصراع مع إيران. ثم هناك تعاطف عالمي حالياً مع أية دولة تحاول كسر سيطرة القطب الواحد، بعد أن أساءت أميركا استعمال تفوقها إلى حد كبير. باختصار، الشطرنج الدولي الحالي ليس عودة للحرب الباردة، لكنه حركة احتجاج من جانب روسيا ضد سياسة القطب الأوحد ومحاولة لإثبات وجودها العالمي كقطب سابق، وبالتالي إنشاء ميزان قوى عالمي أكثر توازناً. السؤال المهم بالنسبة لنا: كيف يستطيع العرب أن يقوموا بالتشخيص العالمي السليم، ثم محاولة استغلال الديناميكيات الدولية الجديدة للدفاع عن مصالحهم؟