على عكس النساء، لا يمر الرجال بسن اليأس، التي تيأس فيها المرأة من الحمل، وتفقد أملها في الإنجاب، ولكن هذا لا يعني أن خصوبة الرجل لا تنخفض بالتقدم في العمر، حيث تُظهر الدراسات التي تقارن بين من هم دون سن الثلاثين من الرجال ومن هم فوق سن الخمسين، حدوث انخفاض في الخصوبة بمقدار يتراوح ما بين 23% إلى 38%، وإن كانت هناك حالات موثقة لرجال أنجبوا وهم في العقد التاسع من عمرهم. وبخلاف مقدار الخصوبة للرجال والنساء، يحمل تقدم أحد الأبوين -أو كليهما- في العمر، مشاكل خاصة على صعيد احتمالات إصابة الطفل بالعديد من الأمراض. وأحد تلك الأمراض، المعروف والموثق منذ زمن علاقته بتقدم الأبوين في العمر، وخصوصا الأم، هو منظومة "داون" (Down’s Syndrome)، التي كان يطلق عليها قديماً منظومة العته المنغولي. ففي هذا المرض يولد الطفل بنسخة إضافية من الأجسام الوراثية الصبغية -كروموسوم رقم 21- ليصل عدد الكروموسومات في خلاياه إلى 47 كروموسوماً، بدلاً عند 46 كروموسوماً كما هو الحال لدى الطفل الطبيعي. ولا يعلم أحد بالضبط حتى الآن سبب حدوث هذا الاختلال، وإن كان يرتبط بشكل ما بعمر الأم. فعند النساء اللواتي يحملن تحت سن الرابعة والعشرين، تصل احتمالات إصابة الطفل بمنظومة "داون" إلى واحد من بين كل 1600 طفل. وترتفع هذه النسبة إلى طفل من بين كل 19 طفلاً فقط، بين النساء اللواتي يحملن ويلدن فوق سن الخامسة والأربعين. وهي الحقيقة التي ظهرت على جميع وسائل الإعلام خلال الأيام القليلة الماضية، خلال فعاليات مؤتمر الحزب "الجمهوري" في الولايات المتحدة، عندما قبلت "سارة بالين" البالغة من العمر الرابعة والأربعين، ترشيح الحزب لها لمنصب نائب الرئيس الأميركي، وبجوارها طفلها الرضيع المصاب بمنظومة "داون". ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن كل النساء اللاتي بلغن هذا العمر، إذا ما حملن فسيضعن طفلاً مصاباً بالمرض، وإنما يشير فقط إلى علاقة طردية بين عمر الأم وبين ازدياد نسبة أو احتمالات الإصابة بالمرض. ولكن بالنظر إلى أن النساء اللاتي يحملن في هذا السن، غالباً ما يكن متزوجات من رجال أكبر منهن عمراً، فقد تزايدت الشكوك مؤخراً في أن عمر الأب، وخصوصاً بعد الثانية والأربعين، ربما يلعب دوراً أيضاً في احتمالات إصابة الطفل بالمرض. وهذه الشكوك في العلاقة بين عمر الأب وبين احتمالات إصابة المولود بأمراض وعيوب وراثية، أكدتها هذا الأسبوع دراسة صدرت من السويد، ونشرت في إحدى الدوريات العلمية المتخصصة في الأمراض العصبية والنفسية (Archives of Psychiatry). وقد أظهرت الدراسة أن خطر الإصابة بأحد الأمراض العصبية النفسية (Bipolar Disorder)، يزداد لدى من ولدوا لآباء تخطوا سن التاسعة والعشرين، ويصل إلى ذروته عند من ولدوا لآباء تخطوا الخامسة والخمسين من العمر. وفسرت الدراسة هذه العلاقة، على أنها نتيجة ما يعرف بتشيُّخ الحيوانات المنوية. فعلى عكس النساء، اللاتي يولدن وفي أجسامهن عدد محدد وثابت من البويضات فإن الحيوانات المنوية لدى الرجال قابلة للتجدد باستمرار. وهذا الفرق بين الرجال والنساء، هو السبب في أن النساء يفقدن قدرتهن على الإنجاب مع وصولهن إلى سن اليأس بعد أن يتليف مخزونهن الأولي من البويضات، بينما يظل الرجال قادرين على الإنجاب وذلك لتجدد المخزون من الحيوانات المنوية. وهو ما يتطلب نسخ المادة الوراثية مراراً وتكراراً بين الأجيال المتتابعة من الحيوانات المنوية، وهي العملية التي قد تحدث فيها أخطاء مع التقدم في السن، مما يؤدي إلى ظهور عيوب وراثية في الذرية. وهذا ما ثبت بالفعل في أمراض أخرى، مثل طيف اضطرابات التوحُّد، والشيزوفرينيا. فعلى صعيد التوحُّد، أظهرت دراسة شهيرة وواسعة النطاق، أن الأطفال الذين ولدوا لأب تخطى سن الأربعين، تزداد لديهم احتمالات الإصابة بمقدار ستة أضعاف مقارنة بالأطفال الذين ولدوا لأب تحت سن الثلاثين. أما على صعيد الشيزوفرينيا، وهو مرض نفسي شديد الوطأة، فقد أظهرت دراسات متعددة أن الأطفال الذين يولدوا لآباء كبار في السن، تزداد لديهم احتمالات الإصابة بالمرض بشكل كبير. وبالتحديد إذا ما كان الأب فوق سن الخمسين، تزداد احتمالات إصابة ذريته بالشيزوفرينيا بمقدار ثلاثة أضعاف، مقارنة بمن ولدوا لأب تحت سن الخامسة والعشرين. أما الآباء بين سني الخامسة والأربعين والتاسعة والأربعين، فتزداد احتمالات إصابة ذريتهم بالشيزوفرينيا بمقدار الضعف فقط. وهو ما يعني في النهاية أن واحدة من كل أربع حالات إصابة بالشيزوفرينيا، ربما يكون سببها ببساطة هو أن المريض ولد لأب متقدم في العمر. وفي المحصلة فإن هذه الأرقام والنتائج والإحصائيات تقودنا إلى حقائق واستنتاجات بالغة الأهمية. أولاً: أن عمر الأب مسؤول عن إصابة الأطفال بالأمراض الوراثية، بنفس قدر مسؤولية عمر الأم. وهو تصحيح مشابه للتصحيح الذي تم بشأن الاعتقاد الذي ساد لفترة طويلة، بأن عقم الزوجين دائماً ما يكون من مسؤولية الزوجة وحدها. ثانياً: أن جزءاً كبيراً من الأمراض التي لم يستطع الطب الحديث تحديد سببها بعد، مثل التوحد والشيزوفرينيا، ربما يكون سببه ببساطة هو كبر عمر أحد الأبوين، أو كليهما. ثالثاً: وربما كان الاستنتاج الأهم، هو النصيحة المتعلقة بإنجاب الأطفال في مرحلة الشباب المبكر، وتجنب إنجابهم قدر الإمكان في المراحل المتقدمة من العمر. ففي ظل تأخير الإنجاب من قبل العديد من الأزواج، إما بسبب الظروف الاقتصادية غير المواتية، أو سعياً وراء التقدم المهني والعلمي، يتوقع للأبحاث الطبية المستقبلية أن تعزز من هذه النصيحة، بناء على قاعدة أن خير البر عاجله.