القلق المصري من دور إيران الإقليمي الآخذ في التوسع لا يمكن إخفاؤه. فإذا لم تخش القاهرة من أن تصبح طهران هي مركز التفاعلات الإقليمية في حالة تمكنها من مقايضة عسكرة برنامجها النووي باعتراف أميركي بدورها الرئيسي في المنطقة، فهذا يعني أنها لا تدرك ما يحدث حولها. فالنفوذ الإيراني في العراق الآن أكثر وضوحاً من أن يكون محلاً لجدل حول وجوده من عدمه. فلا خلاف تقريباً الآن على أن نفوذ إيران أقوى من نفوذ الولايات المتحدة. ومع ذلك، فهناك في القاهرة من يرى أن إيران عاجزة عن أن تصل إلى ما بلغه الدور المصري في العراق منذ سقوط عبد الكريم قاسم وحتى صعود البكر وصدام حسين. فتأثير إيران على النظام العراقي الذي مازال في طور التشكل، أقل مما كان عليه نفوذ مصر على نظام الأخوين عارف مثلاً. فعندما رحل عبد السلام عارف في حادث سقوط (أو إسقاط) طائرته بين القرنة والبصرة عام 1966، قررت مصر تنصيب شقيقه عبد الرحمن خلفاً له. ويقال إن عبد الحكيم عامر كان يفضل ضابطاً آخر لجأ إلى مصر هو عبد الرزاق الكبيسي، لكن عبد الناصر حسم الأمر باختيار عارف الأخ. الذي أزاحه انقلاب "البعث" بعد عامين على توليته الرئاسة. وليس في إمكان إيران الآن أن تعين رئيساً للعراق أو تختار رئيس وزرائه. وعندما اختلفت معهما قبل شهور قليلة بشأن مشروع الاتفاق الأمني مع الولايات المتحدة، شجعت مقتدى الصدر وجيش المهدي التابع له على التصعيد. غير أن الاعتقاد بأن مصر كانت أكثر نفوذاً في العراق مقارنة بإيران الآن، إنما هو استنتاج متعجل. فقد اقتصر نفوذ مصر في تلك الفترة على سلطة الدولة. أما نفوذ إيران الآن فهو متغلغل في مساحة كبيرة من المجتمع. كما أن النفوذ المصري في قصر الرئاسة كان قصير المدى. ولذلك صار كأن لم يكن عندما أزيح عارف من القصر وبدأ صدام حسين في محو آثار الوجود المصري. أما النفوذ الإيراني الحالي فقد يكون طويل المدى، لأنه وصل إلى عمق المجتمع. وأياً يكن الأمر، فالمعنى هنا هو أن مصر قلقة، ومعها كل الحق، من انتشار النفوذ الإيراني الذي لم يعد مقصوراً على العراق. لكن هذا القلق لا ينتج حتى الآن إلا سياسة ارتجالية عمادها شن حملات موسمية على طهران وخوض معارك صغيرة لا تفيد في مواجهة الخطر الكبير الذي تخشاه مصر جراء المشروع الإيراني. فإحدى نقاط الضعف في المعركة السياسية التي تخوضها مصر ضد إيران الآن، هي عشوائيتها وطابعها الارتجالي. فلا رؤية واضحة، ولا خطة محددة للتحرك في مواجهة الخطط الإيرانية. وهذا يفسر بقاء السياسة المصرية في موقع رد الفعل، بينما تمتلك إيران زمام المبادرة وتصدر عنها الأفعال التي تسعى القاهرة إما إلى مواجهتها أو التكيف معها. وفي ظل هذا الوضع تبدو المعارك السياسية التي تخوضها مصر بأشكال مختلفة، صغيرة في مجملها. وبسبب عشوائيتها فهي تؤدي في الأغلب الأعم إلى نتائج عكسية تفيد إيران أكثر مما تنفع مصر. ومعركة الفيلم الذي شنت جهات مصرية عدة، إعلامية وسياسية، حملة على إيران بسببه في الفترة الماضية، هي دليل آخر على ذلك. فقد قامت هذه الحملة على أن "دولة الولي الفقيه" دعمت إنتاج وبث هذا الفيلم، الذي سعى إلى تمجيد قتلة الرئيس الراحل أنور السادات. لكن لم تمض أسابيع قليلة حتى تبين أن جمعية إيرانية متطرفة حصلت على نسخة من فيلم وثائقي عن اغتيال السادات كانت قناة "الجزيرة" قد أنتجته منذ خمس سنوات، وعالجت فيه ذلك الحدث الجلل بأسلوب الرأي والرأي الآخر. لكن الجمعية الإيرانية أعادت "مونتاج" الفيلم بطريقة معادية للسادات وغيرت عنوانه. كما اتضح أن الفيلم لم يبث في التليفزيون الإيراني الرسمي، ولم يعرض في دور العرض العامة. غير أنه حتى بافتراض أن هذا الفيلم لقي دعماً رسمياً إيرانيا بشكل ما، فهو ليس أكثر من حلقة جديدة في مسلسل الهجوم المتواصل في طهران على الرئيس السادات. فمازالت هناك جدارية في قلب العاصمة الإيرانية تمَّجد خالد الإسلامبولي قاتل السادات. كما كان اسم الإسلامبولي موضوعاً على أحد شوارع طهران قبل رفعه أوائل عام 2001 نتيجة جهد كبير بذله الرئيس السابق محمد خاتمي، والذي فشل رغم ذلك في إقناع الجهة المسؤولة عن الجدارية (بلدية طهران) بإزالتها. ولذلك فلا جديد في الموقف الإيراني المعادي للسادات، بسبب احتضانه الشاه بهلوي عقب خلعه. ولا معنى، بالتالي، لخوض معركة بسبب فيلم يعيد إنتاج هذا الموقف إلا إذا كان ثمة خطأ أساسي في المنهج المصري المعتمد في إدارة الأزمة مع إيران. فقد أعطت مصر انطباعاً بأنها تخوض معركة "مصير"، عندما اتجهت بعض مؤسساتها الرسمية إلى التصعيد عبر اتخاذ إجراءات مثل إلغاء مباراة ودية في كرة القدم كانت مقررة بين منتخبي البلدين في 20 أغسطس الماضي، ثم خفض مستوى تمثيلها في المؤتمر الوزاري لعدم الانحياز في طهران نهاية يوليو الماضي. وكان قرار إلغاء المباراة الكروية ارتجالياً بامتياز، رغم عدم أهميتها كمباراة ودية. فالانسحاب من أي مباراة رياضية يعتبر هزيمة. لكن الخسارة التي منيت بها مصر جراء قرار إلغاء المباراة، ليست رياضية فحسب، وإنما سياسية أيضاً. ولم تفَّوت الأجهزة المعنية في إيران الفرصة، بل شنت حملة ظهرت فيها طهران كما لو أنها حريصة على القواعد الدولية، بينما بدت القاهرة في صورة بدائية وغير حضارية. لم تكن تلك أول مباراة ودية بين المنتخبين في ظل الأزمة الممتدة منذ عام 1979، فقد أقيمت مباراة من هذا النوع في عام 2000. ولا يُعقل أن يكون فيلم ضد السادات أو غيره هو المحدد لسياسة مصر والمحرك لخطواتها. وليس في مصلحة مصر أن تعادي الإيرانيين كلهم عن بكرة أبيهم، بمن فيهم الرياضيون، بدلاً من السعي لكسب فئات منهم على النحو الذي تحاول الولايات المتحدة تحقيقه. وفي الوقت الذي أُعلن قرار إلغاء مباراة كرة القدم مع إيران، كان فريق كرة السلة الإيراني المؤهل إلى أولمبياد بكين في طريقه إلى ولاية يوتا للعب مباراة والتواصل مع الشعب الأميركي وفقاً لما أعلنته وزارة الخارجية في واشنطن. وكما دل قرار إلغاء المباراة الودية على اختلال آخر يشوب إدارة مصر للأزمة مع إيران، وهو اتخاذ مواقف تدعم التيار الأكثر تطرفاً في طهران على حساب الإصلاحيين الذين يحتفظ بعض قادتهم، وعلى رأسهم خاتمي، بعلاقات طيبة مع مسؤولين مصريين كبار في مقدمتهم الرئيس مبارك شخصياً. ويعرف كل متابع للأزمة الممتدة بين مصر وإيران، أن في طهران اتجاهين مختلفين إزاء القاهرة. فهناك الاتجاه الذي يريد تحسين العلاقات، وبدأ يتحرك بالفعل في هذا الاتجاه منذ أواخر الثمانينيات بعد انتهاء الحرب مع العراق. أما الاتجاه المعادي لمصر فقد دأب على تخريب أي تحرك يقوم به المعتدلون لمد الجسور، إلى أن بدأ تأثيره يتراجع نسبياً عندما صارت إيران في حاجة إلى مد جسور مع دول المنطقة لتدعيم مركزها في الصراع مع الغرب عموماً حول برنامجها النووي. ولذلك، تعد هذه هي المرة الأولى التي يبدو فيها الاتجاه الإيراني المعتدل تجاه مصر قادراً على طرح مسألة إعادة العلاقات بجدية. وربما يكون هذا هو ما دفع إحدى مجموعات المتطرفين في إيران إلى إنتاج فيلم "34 طلقة على الفرعون" في محاولة جديدة لتخريب مسعى المعتدلين هناك. وهذا ما ينبغي أن يدركه صانعو القرار المصري تجاه إيران. غير أن أخطر ما ينطوي عليه التصعيد الشديد الذي حدث بسبب هذا الفيلم، هو أن مصر تدير الأزمة مع إيران بمنهج ماضوي يركز على التاريخ، بينما أصبحت السياسة الإيرانية في المنطقة تمثل خطراً حالياً ومستقبلياً على مصر ودورها الإقليمي ومصالحها، وربما أيضاً أمنها القومي إذا تعذر حل الصراع الفلسطيني الداخلي وبقيت حركة "حماس" ذات العلاقات الوثيقة مع إيران مسيطرة على قطاع غزة. فالتهديد النابع من ازدياد نفوذ إيران الإقليمي وتنامي دورها يمثل خطراً كبيراً على موقع مصر في المنطقة إذا لم تحسن التعاطي معه وظلت تواجهه بطريقة المعارك الصغيرة، من نوع معركة الفيلم المسيء للرئيس السادات.