يزخر العالم الفكري بنظريات سياسية متعددة، بعضها انتقل من نطاق النظرية إلى مجال التطبيق. وبعضها الآخر ظل حبيس الأطر النظرية المختلفة ولم تتح له إطلاقاً أن يختبر في الممارسة العملية فبدا كما لو كان عوالم خيالية ينسجها الفلاسفة من خيوط أفكارهم المجردة! ولاشك أن حديثنا السابق عن صعود وسقوط الإيديولوجيات السياسية وثيق الصلة بما نريد أن نطرحه اليوم. والسؤال الأساسي هو: لماذا تفشل النظريات السياسية كالماركسية والاشتراكية والرأسمالية والقومية العربية في التطبيق؟ ليس هذا مجرد سؤال نظري بل إنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ القرن العشرين. هذا القرن الذي ازدحمت فيه النظريات السياسية وتصارعت على صعيد التحليل النقدي وعلى محك المؤشرات العملية في مجال الإنجاز وتحقيق الأهداف المعلنة. كان الصراع الأساسي بين الرأسمالية والماركسية. وسرعان ما انشق الماركسيون وخرج من عباءتهم الاشتراكيون. ثم ما لبثت النازية أن ظهرت في ألمانيا، ولحقتها الفاشية في إيطاليا. غير أن الحرب العالمية الثانية التي دارت بين دول "المحور" (ألمانيا وإيطاليا واليابان) ودول "الحلفاء" (أوروبا ثم الولايات المتحدة الأميركية من بعد) تكفلت بحكم انتصار الحلفاء بإزاحة النازية والفاشية من ساحة الصراع الأيديولوجي. ولم يبق أمامنا وخصوصاً بعد عام 1945، وهو تاريخ نهاية الحرب العالمية الثانية، سوى الصراع بين الماركسية وتطبيقاتها في الاتحاد السوفييتي أساساً والصين وإن كان بطريقة أخرى والرأسمالية بتنوعاتها المختلفة. وهذا الصراع استمر بضراوة من عام 1945 حتى حوالى عام 1996 حين انهار الاتحاد السوفييتي، واعتبر ذلك نهاية رسمية للصراع، خصوصاً أن الصين من خلال إبداع نظري وتطبيقي غير مسبوق تحولت إلى نوع من الرأسمالية المعولمة المخططة بقيادة الحزب الشيوعي الصيني! ويبقى السؤال الذي طرحناه سلفاً لماذا تفشل النظريات السياسية؟ وهل كل النظريات معرضة للفشل أم قد يفشل بعضها وينجح بعضها الآخر؟ لو تأملنا رحلة أي نظرية منذ ميلادها حتى نهايتها لاكتشفنا أن النظرية لكي تكون أصيلة ومتفردة لابد لها أن تزعم أنها تمتلك الحقيقة المطلقة! وهذا هو المأزق التاريخي لأي نظرية! وقد شهدنا في الممارسة التاريخية أن الرأسمالية الأوروبية حين صعدت وهيمنت على المسرح السياسي والاقتصادي الأوروبي ادعى أنصارها أنها هي، وليس أي نظرية غيرها، القادرة على قيادة التطور الحضاري والاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات الأوروبية. وأن الماركسية التي برزت باعتبارها منافسة لها لا تمتلك أي مصداقية، بل إنها كما نعتها الفلاسفة البورجوازيون نظرية متهافتة، ومضادة للطبيعة الإنسانية لأنها تسعى -في التحليل الأخير- من خلال "الجماعية" للقضاء المبرم على الذوات الفردية! وعلى العكس من هذا الاتجاه زعم دعاة الماركسية أنها نظرية تمتلك الحقيقة المطلقة، وأن الرأسمالية -على العكس ستذوي وتنتهي بحكم ثورة البروليتاريا التي ستقضي على نظام الاستغلال الرأسمالي وتشيد دعائم المجتمع الاشتراكي الذي سيتيح ازدهار الشخصية الإنسانية إلى أقصى الحدود، لأن الإنسان في المجتمع الاشتراكي -بعد خلاصه من الاستغلال الطبقي- سيتاح له لأول مرة في التاريخ أن يمارس الإبداع الفكري والأدبي والفني بحكم وقت الفراغ الذي سيتاح له، مما من شأنه أن يبرز المواهب المختلفة كما أكد ذلك كارل ماركس في بعض كتاباته. وفي تقديرنا أن السبب الرئيسي في فشل أي نظرية سياسية مهما بدت مقدماتها صحيحة ونتائجها سائغة هو ذلك الزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة! لأنه ليست هناك أي نظرية حتى ولو كانت نظرية علمية أكدتها التجارب المعملية تمتلك هذه الحقيقة، إلى درجة أن فيلسوف العلم البريطاني الشهير كارل بوبر قد صاغ بهذا الصدد فكرة أساسية مفادها أن النظرية التي لا تقبل الدحض ليست نظرية! بعبارة أخرى النظرية التي تحيط نفسها بأسوار متينة من التحوطات المنهجية حتى تبدو كما لو كانت بناء لا يخترق ليست نظرية علمية! لأن تقدم العلم يقوم -بكل بساطة- على جدل صعود وسقوط النظريات العلمية! غير أن هذا الدرس الفلسفي البليغ لم يتعلمه دعاة الرأسمالية الذين تطرقوا في الدفاع عنها وعلى رأسهم علماء اجتماعيون كبار منهم "دوركايم" الفرنسي و"ماكس فيبر" الألماني و"باريتو" الإيطالي. ووقف مدافعاً عن الماركسية في المعسكر الآخر "كارل ماركس" و"إنجلز". وقد أثبتت الممارسة العملية أن الزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة كان أحد أسباب فشل كل من الماركسية والرأسمالية المتطرفة في التطبيق. غير أن هذا الفشل دفع بأنصار كل نظرية إلى التجديد النظري والإبداع العملي. يصدق ذلك على كل من الماركسية والرأسمالية. أما الرأسمالية التقليدية فقد أحس دعاتها أنها لا يمكن أن تعيش إلا إذا تجددت حتى تستطيع مجابهة خطر الصراع الطبقي الذي يداهمها ويهدد من خلال إضرابات العمال وهباتهم الثورية الاستقرار الاقتصادي والسياسي. وهكذا بادر بعض أنصارها وعلى رأسهم بسمارك في ألمانيا بصياغة تشريعات اجتماعية كرعاية العمال في مجال البطالة والمرض والتقاعد حتى يقطع الطريق على التيارات الشيوعية التي كانت تتربص بالنخبة الرأسمالية الحاكمة. وإذا كانت مزاعم امتلاك الحقيقة المطلقة هي السبب الرئيسي في فشل النظريات السياسية، فإن السبب الثاني هو عدم نجاح محاولات تجديد النظريات ماركسية كانت أم رأسمالية نتيجة تفاعل ظروف شتى. غير أنه برزت في العقود الأخيرة ظواهر فريدة في مجال النظريات السياسية. وأهمها أن النظريات فقدت نقاءها النظري التقليدي واختلطت أوراق كل نظرية بالنظريات الأخرى. وأصبح المواطن الأوروبي -على سبيل المثال- لا يستطيع التفرقة بسهولة بين خطاب الأحزاب الاشتراكية وخطاب الأحزاب الرأسمالية! ومما يدل على صدق هذه الملاحظة الانتخابات الرئاسية التي دارت بين جوسبان زعيم الحزب الاشتراكي وجاك شيراك زعيم الحزب الديجولي الرأسمالي. وكان شيراك قد سبق جوسبان في إلقاء خطابه الافتتاحي الذي أعلن فيه ترشحه للرئاسة. وفوجئ الفرنسيون بجوسبان يقول لقد سرق شيراك خطابي السياسي! ويقصد أن المقولات الرأسمالية لتطوير المجتمع الفرنسي لا تفترق إطلاقاً مع المقولات الاشتراكية! وقد يعود ذلك إلى عهد ميتران الذي حاول حين فاز برئاسة الجمهورية أن يطبق حلولاً اشتراكية اقتصادية وفشل، فتحول إلى اليمين، وقام بممارسة رأسمالية تحت أعلام الاشتراكية! وبعبارة موجزة، فإنه ليس من السهل في عالم اليوم التمييز القاطع بين حلول اشتراكية خالصة وحلول رأسمالية نقية لأن الساسة بمنطق براجماتي يحاولون التأليف الخلاق بين متغيرات كان يظن من قبل أنها متناقضة سعياً وراء حلول عملية للتنمية في عصر العولمة. وقد تكون هذه الحقائق التاريخية هي الطاقة وراء مقولات "حركة ما بعد الحداثة"، وخصوصاً مقولة "سقوط النظريات المتكاملة أو الأنساق الفكرية المغلقة metanarateies وبداية عصر الأنساق الفكرية المفتوحة التي يمكن أن تتضمن مفردات مستقاة من نظريات متعددة قد تكون متعارضة! قد يبدو هذا الرأي متطرفاً ولكن قد يكون نموذجه الأساسي الرأسمالية الصينية التي يقودها الحزب الشيوعي الصيني والتي هي مزيج من مقولات الاشتراكية ومبادئ الرأسمالية!